أسماء خليل تكتب: الشمعة المحترقة والوهم
إذا كنت أنت الشمعة التي تحترق من أجل الآخرين، إذن فأنت الشخص الذي يُعلم وينظم ويقوِّم ويُصحح، فلماذا تحترق وتفنى تاركّا إياهم يواجهون الحياة بلا نور بعد احتراقكِ.. هلَّا يمكن أن تنير لتمشي أنت في طرقاتٍ ممهدة صلبة قوية وتظل كما أنت لا تحترق! وتحاول أن تظل لتشق الطريق لمن خلفك فيسيروا في هديك محتذين خُطاك؟!.
.. لماذا تحترق أنت كي يعيش الآخرون؟!..
إنَّ هذا المنطق يدينهُ المُنهزمون، فالأقوياء لا يستسلمون ويُصبخون رُفاتّا من أجل أن يمشي عليهم ذويهم؟!.. إنهم يزرعون الأخضر ليأكل منه الجميع وهم أيضّا.. قواميسّا اخترعها البشر منذ قرون، ومازالوا يطبقونها بما تحويه من ظلم وقهر، وهم يظنون أنها الخير.
حينما أمرنا الله – سبحانه وتعالى – فاعف واصفح، في نفس الوقت أرشدنا بأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وحينما قال سبحانه فانزغ نزغّا حسنا فإذا الذي بينك وبينه كأنه ولي حميم، في نفس الوقت أرشدنا بأن الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس؛ نفهم من ذلك أن الأديان السماوية لا تدعو إلى الخنوع وإلغاء الشخصية وجعلك مجرد جسر يسير عليه الآخرون، حينما تكون تضحيتك عظيمة من أجل أن تُشيد علما أو تبني بناية ينتفع بها العالم، إذن فأنت عظيم ولم تضيع عمرك هباءً..
إن الاحتراق يُصنفه العلماء بأنه تغير كيميائي يغير من شكل وتركيب المادة ويصدر عنه مادة جديدة أخرى، ولا يمكن إعادته إلى سيرته الأولى، فلماذا تذبُل وتحرم من حولك من استنشاق عطركَ الأخاذ ؟!..إنها التربية الخاطئة التي تربى عليها الكثير، لماذا لابد من وجود مُضحي، لماذا نسمع تلك العبارة بشكل دائم “ حرمت نفسي من كل حاجة عشانك”، لماذا لا يتم استبدالها ب“سعِدتُ بك وبوجودك في حياتي”، “عشتُ معك وجوراك.. لا حرمتني من الحياة من أجل أن تعيش أنت”.. لماذا لم تحاول العيش معه، بدلا من الموت على طاولة التضحيات؟!..
إنه “الوهم”.. حينما تعلم أن هناك من يستعذبون العطاء، ويجدون ذلك المسلك فيه السعادة، ولكن كثيرًا منهم دائمو الشكوى، فتضيع الحقائق ولا تستطيع التفكير السليم، أو بناء استنتاج منضبط عما يحدث حولك..
كانت لنا جارة وجدتُها مع أمي بالحياة حين جئتُ للدنيا، كان لها ابنًا وحيدًا يعيشان سويًّا، ولا أحد معهما، عهِدتُها تبكي وترتدي الأسود، لم أرها تضحك قط وكنت أقول في نفسي إن وجه تلك المرأة جميل جدا، فماذا لو ابتسمت؟..ولكنها لم تفعل !..كلما كان يُضايقها ابنها كانت تقول له“انا ضحيت بشبابي وقعدت عشانك”، وتلك الجملة لن أنساها..
إنها بدأت حياتها من حيث النهاية، وسعدت بقلادة نهاية الخدمة التي سيراها الجميع ترتديها فيُصفقون لها، ظلت المرأة كذلك ينحني لها المُجتمع احتراما، بينما هي بداخلها الحزن متضرمًا، وكانت تقول هذا الصبي هو ابني وزوجي، إلى أن جاء يوم زفاف ولدها، وبالطبع غمرت دموعها كل المكان، ولكنها لم تكن فقط دموع الفرح، إنها دموع الحسرة على عمرها الذي ضاع، وظلت تعيش مع ابنها وتذكره دائما أنها ضحت من أجله، ومرَّرت عيشة زوجة ابنها لدرجة طلبها الطلاق أكثر من مرة ،،
كنت أقول لنفسي ماذا لو عاشت تلك المرأة بحكمة وذكاء وفي حياتها زوج، وبخاصة انه لم يكن لديها سوى ابن واحد فقط؟!.. ماذا لو بدأت حياة جديدة وأنجبت أخا أو أختا لابنها وأوجدت البهجة بحياتها وحياة ابنها ؟!.
نعم كن شمعة مُنيرة ولكن ليست مُحترقة، اعطِ ..امنح..ازرع ولا تنتظر من يروي..ولكن إن لنفسك عليك حقًّا، هذا ما قاله سلمان الفارسي لأخيه أبي الدرداء عندما زاره فوجده قد انقطع للعبادة حتى أهمل حق زوجته وحق نفسه. فقال “إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”. وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: “صدق سلمان”.