لواء دكتور سمير فرج يكتب: وأخيراً عادت أفريقيا إلى أمريكا

خلال دراستي في كلية كمبرلي الملكية بإنجلترا، ومع نهاية الفصل الدراسي الأول، كان مطلوباً مني اختيار كتاباً، لتلخيصه، فاخترت، حينها، كتاباً للسياسي الأمريكي، الشهير، هنري كيسنجر، عنوانه “مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية”، أو “American Foreign Policy”، والحقيقة أنني استفدت، شخصياً، كثيراً، من ذلك الكتاب في التعرف على كيفية صياغة الولايات المتحدة لسياستها الخارجية.

استعرض هنري كيسنجر، كيفية صنع أمريكا لسياستها الخارجية، وفقاً لمستويات الاهتمام، “Level of Interest”، وأوضح، في ذلك الكتاب، الصادر في سبعينيات القرن الماضي، أن مستوى الاهتمام الأول، للولايات المتحدة، حينئذ، كان أوروبا من ناحية، والعداء مع الاتحاد السوفيتي، في مرحلة الحرب الباردة، من ناحية أخرى. في حين كان مستوى الاهتمام الثاني هو الشرق الأوسط، الذي كان يُمثل مصدر الطاقة الرئيسي في هذا الوقت، وضرورة استمرار أمريكا في احتواء هذه المنطقة، ومنع الاتحاد السوفيتي من الوصول إليها. أما الشرق الأقصى، ودوله، كالصين وكوريا واليابان، فاحتل مستوى الاهتمام الثالث، وجاء في مرحلة الاهتمام الرابع للولايات المتحدة الأمريكية، دول أمريكا الجنوبية، باعتبارها قارة الجوار، أما قارة أفريقيا فكانت في مرتبة الاهتمام الخامس، أي الأخيرة.

وبإعادة قراءة فكر هنري كيسنجر، الذي طرحه منذ ما يزيد عن أربعين عاماً، نجد أن أمريكا لازالت تسير، حالياً، على نفس النهج، وإن تبدلت أسبقيات سياستها الخارجية، فاحتل الشرق الأقصى اهتمامها الأول، وتراجعت أوروبا، وروسيا لمستوى الاهتمام الثاني، وتراجع معه الشرق الأوسط، كمصدر الطاقة، وكذلك التهديد النووي الإيراني إلى مستوى الاهتمام الثالث، واحتفظت دول أمريكا الجنوبية، والقارة الأفريقية بمراكزهم، الرابع والخامس على التوالي، في دائرة اهتمامات الولايات المتحدة الأمريكية.

وبتذيل أفريقيا لأولويات الولايات المتحدة الأمريكية، أُتيحت الفرصة، في الفترة السابقة، لباقي قوى العالم لاحتواء الدول الأفريقية، ومحاولة بسط نفوذها على القارة السمراء، وكان أول المتسابقين الصين، التي بدأت بالتوغل في الدول الأفريقية، بإقامة، أو توطيد، علاقاتها الاقتصادية معهم، لصالحها، وذلك بفتح أسواق جديدة للمنتجات الصينية، بالإضافة لمنح تلك الدول قروض كبيرة، لتنفيذ مشروعات البنية الأساسية، سواء لإنشاء السدود، أو محطات الكهرباء، وحتى الطرق والمطارات. ولحقتها في السباق روسيا، التي اعتمدت على التوسع في تسليح الدول الأفريقية، كوسيلة لبسط نفوذها. وحتى تركيا وإيران، فقد لحقا بالركب لفتح أسواق جديدة لبلادهم.

وفجأة، انتبهت أمريكا لعدم سلامة فكرها الاستراتيجي، بعدم إيلاء أفريقيا الاهتمام المُستحق، خاصة بعدما لاحظت، مؤخراً، تضامن الدول الأفريقية مع روسيا والصين، خلال التصويت، في الأمم المتحدة، فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية. ويبدو أن أمريكا قد قررت تدارك ذلك الخطأ الاستراتيجي، والبدء في تحويل بوصلة سياستها الخارجية نحو أفريقيا، وهو ما تم ترجمته في الزيارة الأفريقية التي قام بها وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، في أغسطس الماضي، والتي استهلها بزيارة كينيا، لتقديم الدعم اللازم لتحقيق الاستقرار في النواحي الاقتصادية، وأعقبها بزيارة نيجيريا، أكبر مصدر للنفط في أفريقيا، والتي تكافح المتمردين الإسلاميين، فقدم لها مساعدات أمنية واقتصادية. أما المحطة الأفريقية الأخيرة، فكانت السنغال، لتقديم المساعدات الاقتصادية. وكانت وزارة الخارجية الأمريكية، قد أعلنت أن هدف زيارة بلينكن، إلى الدول الأفريقية، هو التصدي للنفوذ الدبلوماسي الروسي، والصيني في المنطقة، خاصةً بعد الجولة التي قام بها وزير الخارجية الروسي، إلى الدول الأفريقية، في شهر يوليو الماضي.

لم تكتف الولايات المتحدة بتلك الزيارة، بل أعقبتها بدعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لعدد تسعة وأربعون من القادة الأفارقة، لأكبر تجمع دبلوماسي تشهده أمريكا، منذ جائحة كورونا، وأعلن الرئيس الأمريكي، تعيين جوني كارسون، مبعوثاً أمريكياً خاصاً لقارة أفريقيا، كما قررت الإدارة الأمريكية تقديم تمويلاً لأفريقيا، قدره 55 مليار دولار، حتى عام 2025، يخصص لدعم الاقتصاد والصحة والأمن، من خلال استثمارات ومبادرات تستهدف إنقاذ حياة المواطن الأفريقي، يتم تنفيذها ببناء نظام صحي للدول الأفريقية لمواجهة الأوبئة، مع تخصيص 500 مليون دولار لإنشاء شبكة طرق، وملايين أخرى من الدولارات للتحول الرقمي، بالإضافة إلى إقامة منطقة حرة بأفريقيا بقيمة 3,4 تريليون دولار. وخلال ذلك التجمع، أعلن جو بايدن دعمه لانضمام الاتحاد الأفريقي لتجمع دول العشرين، وكذلك دعمه لزيادة التمثيل الأفريقي في مجلس الأمن.

تعد هذه القمة، هي الثانية في تاريخ الولايات، بعدما انعقدت الأولى أثناء ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، وقد شارك في تلك القمة الأخيرة، السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وعقد على هامشها اجتماعات هامة مع كبار المسئولين الأمريكيين، ومنهم وزراء الدفاع والخارجية، تم خلالها عرض رؤية مصر بالنسبة للتواجد الأمريكي في أفريقيا، مستقبلاً، مع استعراض لحجم التحديات التي تواجه القارة السمراء، وتقف حائلاً دون تقدمها. كما عقد سيادته عدداً من الاجتماعات مع أعضاء الكونجرس الأمريكي، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لبحث سبل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، وتعزيز الشراكة الأفريقية الأمريكية، لتيسير اندماج الدول الأفريقية في الاقتصاد العالمي، للاستفادة مما توفره من فرص لتحقيق نموها الاقتصادي، ونقل التكنولوجيا، ودفع حركة الاستثمار الأجنبي.

ورغم أن قرار الإدارة الأمريكية برفع اهتمامها بالدول الأفريقية من المرتبة الأخيرة، إلى مراتب أكثر تقدماً، ينبع من رغبتها السياسية في التصدي إلى التوسع الصيني والروسي بتلك الدول، إلا أن ذلك القرار من شأنه إحداث حراك اقتصادي، يصب في مصلحة دول القارة الأفريقية، وهو ما نتوقع أن نشهده في المستقبل القريب.

Email: [email protected]

اقرأ أيضا للكاتب:

 

زر الذهاب إلى الأعلى