د. قاسم المحبشي يكتب: العلاقة بين العلم والثقافة في المجتمعات العربية
البارحة جمعنا العلم وقاربتنا الثقافة على مدى ساعتين ونصف تقريبا احتدم النقاش حول العلاقة بين العلم والثقافة في المجتمعات العربية الراهنة وذلك في وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية بالمعهد العربي للتجديد العربي.
قدمت الندوة الدكتورة زينب طاهر من أسبانيا وادارها بكفاءة واقتدار الدكتور خالد كموني من لبنان رئيس وحدة الدراسات الفلسفية وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية.
اقرأ ايضا للكاتب:
– د. قاسم المحبشى يكتب: المثقف العربى الجديد (2من2)
د. قاسم المحبشى يكتب: المثقف العربي الجديد (١من٢)
كنت معنيا في تقدم المحاضرة الرئيسة وكان الأستاذ الدكتور الطاهر بن قيزة أستاذ الفلسفة والابستمولوجيا بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس والدكتورة دليلة بن عودة أستاذ الفلسفة المعاصرة في الجزائر، وبحضور الأستاذ الدكتور الخضير المرشدي رئيس المعهد العالمي للتجديد العربي ونوابه.
وزخرت الندوة وهي الأولى في برنامج وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية بحضور نخبة من الأكاديميين والباحثين والمهتمين من مختلف الأقطار العربية من النوع الاجتماعي، فما الذي حدث؟ عرضت فكرتي في عشرين دقيقة على النحو التالي:
نعني بالثقافة لأغراض هذا المحاضرة القوة الإبداعية في التاريخ وهي كل التطور الدائم المستمر في العلم والأدب والفن، بذلك يعد العلم عنصر أساسيًا من عناصرها. بل هو ابنها وربيبها الأنضج. كما سوف نلاحظ آنفا.
بيد أن مسألة نمو العلم وتقدمه وازدهاره ليست مسألة علمية بل تتعين في تلك المجالات الواقعة خارج العلم حيث يتأمل البشر طبيعة الكون والإنسان بأعمق معانيها وأشدها غموضا، وحيث يخلق الخيال الإنساني المؤسسات التي تسمح للأفراد بالاستمتاع على الدوام بالفضاءات المحايدة أو الأطر الميتافيزيقية والثقافية الأوسع التي تجري ضمنها أنماط العلاقات والممارسات والخطابات التي تتشكل في سياقها تصورات الإنسان عن ذاته وعن عالمه وعن الآخرين تشكيلاً عميقاً.
وهذا هو معنى الثقافة بعدها منظومة كلية مركبة من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه أو نفضله كأعضاء في المجتمع، فالثقافة السائدة في حضارة ما بوصفها نموذجاً إرشادياً (باراديم) إما أنها تدعم قوى الإنسان العقلية والإبداعية أو تحد منها وتضيق فرص نموها وازدهارها. في ضوء هذا المنظور يمكن تمثيل العلاقة بين العلم والثقافة بعلاقة الابن والأم، فالثقافة هي الرحم الحي لتخصيب وميلاد ونمو العلم، فكيفما كانت صحة الأم يكون الابن سليماً أو سقيماً. وهكذا كانت وما برحت وظيفة الثقافة هي: تحضير ولادة الفيلسوف والمفكر والعالِم والفنان والمؤرخ والفقيه والأديب والناقد والكاتب والخبير والمربي والسياسي وكل ما يتصل بتفتيح وتنمية قوى الإنسان وقدراته ومواهبه العقلية والعاطفية والبدنية. وهذا هو تعريف كلمة (ثقافة) في (المعجم الفرنسي المنشور 1933) إذ جاء فيه “إن كلمة ثقافة تطلق مجازاً على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية القدرات الفكرية ومواهب العقل والذكاء” وهي بهذا المعنى تتميز بجملة من السمات منها: التهيؤ والاستيعاب والشمول والحكم.
وفي تعقيبه تناول الدكتور الطاهر بن جيزة تاريخ الابستمولوجيا ومفهوم العلم وسياقاته ما العلم؟ وما منهجه؟ وما تاريخ العلم؟ وكيف يمكن فهم وتفسير بنيته وديناميته وصيرورته؟ وما علاقة العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ وما مكانة العلوم الإنسانية ووظيفتها وقيمتها وأهميتها ومستقبلها؟ وما هي المؤسسة العلمية؟ ومن هو العالِم؟ وما الأدوار الاجتماعية التي يمارسها العلماء؟ وما هي محددات الجماعة العلمية؟ وكيف يمارس العلماء نشاطهم؟ وما هي أنماط علاقاتهم؟ وما المعايير التي يلتزمونها؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تضعنا في قلب المشكلة التي واجهتها العلوم الإنسانية والاجتماعية ومازالت تواجهها في سياق سوسيولوجيا العلم المعاصرة، بوصفها منظوراً جديداً في بحث ودراسة الخطاب العلمي بما ينطوي عليه من أنساق، وعناصر، وأفعال وتفاعلات، وعلاقات، وممارسات، وأدوار والتزامات، وقيم وقواعد، ومؤثرات، وبنيات، مادية ورمزية، داخلية وخارجية, فالعلم وفق هذا المنظور ليس مجموعة معارف ولا تقنيات وممارسات ..إلخ،
إذ أن اكتسب مفهوم العلم مسارًا متعرجًا في تحولات المفهوم وسياقات المعنى؛ ففي بواكير العصر الوسيط “كانت الكلمة scientia)) تطلق على المعرفة النسقية المكتسبة بالدراسة المنتظمة، وقد استخدمها فرنسيس بيكون بمعنى المعرفة التي تضم التاريخ والفلسفة ومبادئ الأخلاق واللاهوت ، تمييزاً لها عن كلمة (art) التي تعني فن بمعنى مهارة وحرفة. وقد ظلت الكلمة تطلق على حقل الدراسة النظرية النظامية حتى أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ جرى استبعاد مجالات معرفية أساسية وأصيلة مثل الفلسفة والأدب والتاريخ واللاهوت لينحصر معنى الكلمة على العلوم الطبيعية التجريبية (الفيزياء والكيمياء والأحياء) وهذا هو ما حفز عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت إلى محاولة تأسيس علم اجتماع وضعي يستلهم منهج العلوم الطبيعية. وهكذا تم تصنيف العلوم في الأبستمولوجيا المعاصرة إلى: العلوم الطبيعية البحتة بوصفها علوماً حقيقة، والعلوم الإنسانية الاجتماعية وتأتي في المرتبة الثانية في سعيها إلى اكتساب جدارة المعرفة العلمية، والعلم هو نوع من المعرفة، لكن ليس كل معرفة علماً. ويذهب روبرت موتون إلى “أنه إذا كان مصطلح (علم) يعبر عن حقائق مختلفة للغاية، فإن علم اجتماع العلم يهتم بالصيغة التي ترى العلم بوصفه مجموعة قيم ثقافية تؤثر في النشاطات المعرّفة أو (المصنفة) علمية” وفي قاموس أكسفورد المختصر جاء: “العلم هو ذلك الفرع من الدراسة الذي يتعلق بنسق مترابط من الحقائق المبرهنة، بصيغة قوانين عامة، ومسلمات مستخلصة عبر طرق ومناهج موثوق بها، لاكتشاف الحقائق الجديدة في ذات التخصص” في ضوء ما تقدم ولأغراض هذا البحث يمكن تعريف العلم : بمنظومة الأفعال والأقوال التي يمارسها العلماء في بحث ودراسة الظواهر الطبيعية والإنسانية ومحاولة تفسيرها وفهمها والكشف عن حقائقها المحتملة على الدوام، وذلك باستعمال مجموعة من الطرق والأدوات المنهجية التجريبية والاستدلالية العقلانية بالتزام قيم معيارية موضوعية ومجردة قابلة للقياس والنقد والتقييم.
وفي تعقيبها تناولت الدكتورة دليلة بن عودة الثقافة عند المفكر الجزائري الكبير مالك ابن نبي وتتبعت مفهوم الثقافة وتحولاته في السياقات التاريخية منذ ظهور الكلمة في الفرنسية بمعناها الدقيق في القرن الثالث عشر وتلتها في القرن الرابع عشر كلمات مثقف cultinateur زارع و Agriculteun مزارع ولكنها لم تكتسب معناها المجازي كمعرفة تربية وعلم إلا في القرن الخامس عشر.وكما سبقت كلمة ( مثقف) كلمة (ثقافة) فإن كلمة ( متمدين) أو حضري Civiliaes وأيضاً (مهذب) سبقت كلمة حضارة) ورغم الخلط الملتبس بين كلمتي الحضارة والثقافة في الأدب الحديث منذ أن عرف عالم الأنثربولوجيا الانجليزي ( أدوارد بيرونت تيلور, في كتابه ( الثقافة البدائية) الثقافة بأنها ( كل معقد يشتمل على المعرفة والعقائد والفنون والخبرات التي أكتسبها الإنسان بوصفة عضوا في مجمع ” منذ ذلك الحين والجدل لا يزال مستعر حول مفاهيم الحضارة والثقافة والمدنية.
وربما كان (المجمع الفرنسي) في معجمه المنشور عام 1933م قد أسدى خيراً عندما عرف كلمة الثقافة بما يلي:
“إن كلمة ثقافة تطلق مجازاً على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية المواهب الفكرية ومواهب العقل والذكاء” وهذا هو المعنى الذي قصدناه بقولنا أن الثقافة هي القوة الإبداعية في التاريخ وهي كل التطور الدائم المستمر في العلم والفن والأدب.
إذ أن ما يهمنا هنا هو التأكيد على أن الحضارة كمفهوم وكسياق تاريخي تتميز عن مفهومي الثقافة والمدنية بكونها تتصل اتصالا لازباً بشكل التنظيم السياسي والقانوني والأخلاقي للمجتمع , أنها تعني العيش في مجتمع سياسي منظم بالدستور والقانون والضمير الأخلاقي فكلما كان التنظيم الاجتماعي خاضع للقانون كلما كان أكثر تحضراً وقد بدأت الحضارات في التاريخ بوجود الدولة الإمبراطورية في الشرق القديم وفي ضوء ما تقدم نخلص إلى أن أجود تعريف للحضارة هو قوة التاريخ التنظيمية التي تعني كل التطور الدائم والمستمر في السياسة والتشريع والأخلاق.
قدمت مداخلات مهمة من الحضور الكريم، وكانت أهمها ملاحظات الأستاذة الدكتور نزيهة طاهر من تونس عن المعنى الانثربولوجي للثقافة والتمييز بين الثقافة العالمة والثقافة العامة.