د. قاسم المحبشى يكتب: المثقف العربى الجديد (2من2)  

في مجتمعاتنا العربية لم أجد دورا اجتماعيا معترفا به ومقدرا خير تقديرا للمثقف بما هو كذلك ثمة أدوار للنخب التقليدية ؛ الفقهاء والساسة والعسكر والامراء والسلاطين وشيوخ القبائل والقضاة وأهل الحسبة ولشعراء والوعاظ ولكن لا ادوار محدد للمشتغلين بالفكر والكتابة والثقافة.

أن الحلف المقدس بين السياسي والديني في المجتمع العربي وهيمنتهما على كل الفضاءات الاجتماعية الأخرى قد أفضى إلى تجفيف المنابع الطبيعة لتخصيب ونمو النخب المدنية والثقافية والفكرية التي تحمل على عاتقها وظيفة تنمية وتنوير المجتمع المدني بوصفه عددا من المجالات والعلاقات المتعددة؛ العلاقات الحميمية, في المجال الخاص, مجال الأسرة, مؤسسة القرابة التقليدية الأولى, والعلاقات السياسية للحياة الاجتماعية المشتركة, المجال العام, مجال السياسة والسلطة, وعلاقات الاقتصادية حيث المنافسة والربح والاحتكار مجال السوق، والعلاقات المدنية “حيث يجد الإفراد فرص للتعبير عن مقدراتهم وتطلعاتهم ومواهبهم واهتماماتهم الحرة, مجال العلاقات المهنية والحرفية الإبداعية وغير الإبداعية في المجال المدني, حيث تختفي علاقات القرابة الحميمية, وعلاقات السياسة التسلطية, وعلاقات السوق التنافسية الربحية” هنا يمكن لنا التعرف عن المجتمع المدني في الرحم الحي لتخصيبه, ولكن هل يمكن للمجتمع المدني ونخبه الفاعلة أن يتخصب وينمو ويولد ويزدهر من ذاته ولذاته وبدون قوى وشروط فاعلة؟ والدولة المدنية التي تقف على مسافة واحدة من جميع المواطنين الذين ينتمون اليها هي أهم شروط وقوة في ولكن هذه الدولة ( مؤسسة المؤسسات) كانت ولازالت هي الغياب الكبير في المجتمع العربي الإسلامي يقول: توني .أ.هب  “إن الولايات القانونية في العالم الإسلامي لم تنشأ مطلقاً لأن المسلمين كلهم أعضاء في الأمة الواحدة ولا يجوز فصل المسلمين إلى جماعات يتميز بعضها عن بعض شرعاً”وهناك شبه إجماع بين الدارسين بأن المجتمع العربي ما زال يعيش نمط العلاقات البطريكية بمؤسساتها التقليدية التضامنية الميكانيكية العمودية، ولم يستطع  الانتقال إلى نمط العلاقات الحديثة بمؤسساتها التضامنية العضوية العريضة. ويمكن رصد الفروق بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث في جملة من السمات منها قدرة المجتمع الحديث على تنميط علاقات تشاركية عضوية بعكس المجتمع  التقليدي الذي يحدد مواقع الناس بمعايير تقليدية معزولة بعضها عن بعض وعن المركز. بل إن الحداثة الديكورية في المجتمعات التقليدية يمكنا أن تزيد الصراعات البينية بين الجماعات التقليدية وبينها مجتمعة ض الجماعات الحديثة, هكذا كتب صاموئيل هنتجتون “إن الجماعات العرقية والدينية التي عاشت بسلام , جنبا إلى جنب في مجتمع تقليدي , تصبح مدفوعة إلى صراع عنيف نتيجة للتغيرات والتوترات واللامساواة المتولدة عن الحداثة الاجتماعية والاقتصادية” والخلاصة أن هيمنة المجال السياسي على المجال الديني في الحضارة العربية الإسلامية وتوظيف هذا الأخير لمغتضيات الشهوات الإيديولوجية قد عرقل ميلاد ونمو النخب الفاعلة بعكس الحال في واقع الحداثة الغربية التي ولدت من فك الاشتباك بين المجالين، المقدس والمدنس، وتأسيس الدولة العلمانية التي مهدت السبيل لظهور ادوار اجتماعية تستدعي حضور النخب الفعالة في كل مجال من مجالات الفعل والنشاط الاجتماعي بالمعنى البوردوي( نسبة إلى بورديو) وبإزاء هذا الإخفاق العربي الشامل في تأسيس المجال السياسي المستقل سرعان ما تتحول المعارضة إلى ضرب من الهيجان الطائفي والتعصب العدائي العنيف. وهذا ما يفسر انبعاث هذه الموجة الكاسحة من خطابات الهويات القاتلة التي آخذت تشيع في المجتمعات العربية الإسلامية اليوم على نحو خطير ومثير للحيرة والفزع ( شيعية, سنيه  مسيحية، عربية كردية, في العراق وسوريا. ومسيحية, شيعية, سنية,  درزية, في لبنان. وزيديه, حوثية, اثنا عشرية,  سنية, سلفية, عشائرية,  جهوية في اليمن, ولغوية أثنية عربية, أمازيغية’ بربرية إسلامية في الجزائر, ومسيحية إسلامية, جهوية في السودان’ وعشائرية طائفية مناطقية في ليبيا..الخ)  يحتدم كل هذا في فضاء ثقافي نفسي مشحون بعنف مادي ورمزي, وهستيريا عصابية جماعية عدائية شديدة التحريض والانفجار (روافض, نواصب خوارج, مجوسية, صفوية, قاعدة, أنصار الشريعة، شيعية, حزب الله, أنصار الله، داعش والنصرة ..الخ ) هذا فضلا عن الترسيمات التقليدية للطوائف والمذاهب( سنة، شيعة، خوارج، روابض، والمذاهب الخمسة، المالكي والحنبلي والشافعي، والحنفي والزيدي، وما تناسلت منها من فرق وملل ومذاهب ونحل لا تعد ولا تحصى في عالمنا العربي منها: الوهابية والحوثية وغيرهما. والسؤال الملح هنا ولآن هو ما الذي جعل هذا التنوع الهوياتي في المجتمع العربي الإسلامي يتحول إلى شر مستطير, بينما هو في  مجتمعات كثيرة أخرى مصدر قوة ودليل صحة وعافية كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأمريكا واستراليا وكندا وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول التي تضم طيفا واسعا من الهويات ( ديانات، أقليات, أعراق، أثنيات، لغات، طوائف، ملل، نحل, ومذاهب وما لا يعد ولا يحصى من الجماعات الثقافية المتنوعة ) وهكذا جاء الإسلام السياسي المعاصر الذي ليكرر ما حدث منذ فجر الإسلام وقاد إلى الانقسام ولكن بصور أخرى مختلفة نسبيا في الملامح والقسمات في ظل غياب الدولة المدنية الرشيدة ” لا يوجد أي مجتمع تحترم فيه القواعد تلقائيا”ووظيفة السلطة هي الدفاع عن المجتمع من نقائصه الخاصة, ومن التهديدات الآتية من خارجه. فكيف هو حال السلطة والسلطان في مجتمعاتنا العربية الإسلامية الآن؟ ولطالما استشهدنا بحديث الخليفة الراشدي عثمان بن عفان: (أن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) والعدل أساس الملك, ولا تدوم الدول إلا بعدل صحيح وأمن راسخ وأم

وفي سبيل مقاربة صورة المثقف الذي نريد لابد لنا ان نتعرف على الثقافة وماهيتها .

اذ أن الفرد في المجتمع يتفق مع بعض الناس في كل النواحي كما يتفق مع بعض الناس في نواح أخرى، ولا يتفق مع أي من الناس في نواح ثالثة.وتهتم علوم البيولوجيا والفسيولوجيا بدراسة الجانب الأول، كما تهتم علوم النفس بدراسة الجانب الثالث، أما الجانب الثاني فيشكل مجال اهتمام ودراسة العلوم الثقافية. فالأسلوب الذي يسير عليه الناس في حياتهم وسلوكهم وقيمهم وطرق تفكيرهم وتعبيرهم وفنونهم وآدابهم، إنما يعتمد على طبيعة الثقافة السائدة في المجتمع مع بعض الآثار التي تتركها العوامل الجغرافية والبيولوجية، وهنا تبرز أهمية المنظور الثقافي كأفق منهجي لا غنى عنه في دراسة الثقافات المحلية واكتشاف الاختلافات والمميزات  والتشابهات بينها.

وتؤكد نظرية الثقافة على أهمية التعددية الثقافية لأن الأمة التي تتعدد فيها وتتوازن أنماط الحياة تصبح اقل تعرضاً للمفاجآت وأكثر قدرة على الاستجابة للمواقف الجديدة، ومن ثم فان النظم السياسية التي تشجع تنوع أنماط الحياة المتعددة اقرب للنجاح من تلك التي تقمع التنوع الضروري.أن التعددية الثقافية كمعطى جوهري وحيوي للحياة الإنسانية.وإذا ما انطلقنا من  تعريف الأمريكي (روبرت بيرستد) للثقافة بأنها « ذلك المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نمتلكه كأعضاء في المجتمع» ويميز (ميشيل توميسون) ومؤلفو كتاب (نظرية الثقافة) ترجمة علي الصاوي، عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية 23 تموز 1997م بين ثلاثة انساق متواشجة في بنية الظاهرة الثقافية هي:

– التحيزات الثقافية: التي تشتمل على القيم والمعتقدات المشتركة بين الناس.

– العلاقات الاجتماعية: التي تشمل العلاقات الشخصية التي تربط الناس بعضهم ببعض.

– أنماط وأساليب الحياة: وهو الناتج الكلي المركب من التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية.

– وهناك خمسة أنماط أساسية للحياة هي:1_نمط الحياة التدريجية.2-  نمط الحياة المساواتية.-  3نمط الحياة القدرية. 4-  نمط الحياة الفردية.5- نمط الحياة الانعزالية.وتؤكد نظرية الثقافة على أهمية التعددية الثقافية لأن الأمة التي تتعدد فيها وتتوازن أنماط الحياة تصبح اقل تعرضاً للمفاجآت وأكثر قدرة على الاستجابة للمواقف الجديدة، ومن ثم فان النظم السياسية التي تشجع تنوع أنماط الحياة المتعددة اقرب للنجاح من تلك التي تقمع التنوع الضروري.وتؤكد النظرية أن التعددية جوهرية، لان اختلاف الناس في هذا العالم هو الذي يمكـَّن أنصار كل نمط حياة من أن يعيشوا بطريقتهم بحيث تصبح معيشة الناس في نمط واحد نوعاً من (اليوتوبيا) المهلكة، لأن  أنصار كل نمط حياة يحتاجون للأنماط المنافسة، سواء للتحالف معها، أو الشعور بالذات في مقابلها أو حتى لاستغلالها لمصلحتهم.ما يحدث اليوم للأسف الشديد، هو حضور خطاب السياسة المكرور الممجوج المنمط الذي نعرفه ونعلم كل تفاصيله ورموزه وكلماته وأهدافه، والذي يقدم نفسه في كل مكان بذات التشكل وذات الصورة وذات اللغة وذات الوجه المتجهم المتشابه في أدق التفاصيل كما تتشابه طرابيش الجنود.وحينما تتضخم السياسة وتنشر خطابها الإيديولوجي الدوجمائي في عموم الأفق الثقافي تنحسر أو تغيب كل الخطابات الأخرى- العلمية والأدبية والغنية، ذلك لان السياسة- كما هو معروف- لا حد لرغبتها في التمدد والانتشار ولاستحواذ والتوسع في كل الفضاءات، فالسياسة تكره الفراغ، والسياسية من حيث هي ممارسة للقوة كما يقوم (ميشيل فوكو)، ليس لها من حدود غير ذاتها، أنها لا تريد ولا تحب إلا ذاتها، وهذا هو قانون القوة، فالقوة ليس لها من هدف غير القوة والمزيد منها ومن ثم فهي سعى دائم لامتلاك وقولبة كل ظواهر الحياة الطبيعية والاجتماعية الثقافية والاجتماعية- المادية والرمزية، سعى لا يكل من اجل جعل كما ما هو خارجها يدمج في الداخل ، داخل بنيتها الفعلية والمتخيلة، ذلك في سبيل تعزيز قوتها، فحينما تحشر جميع العناصر الفاعلة في حياة المجتمع: الأرض والسلطة والثروة والنفوذ، والاقتصاد والدين والأدب والعلم والثقافة … الخ حينما تتمكن السياسية من هضم وإعادة قولبة لكل عناصر القوة الواقعية أو المتخيلة في بنيتها الكلية المتوحشة، ينام الوحش بأمان، حينها تغدو السياسة كما يقول دللوز « هي التي تقول ولا تتكلم» إذ يصبح كل خطاب أو قول أو تعبير حتى وان ارتداء أو لبُس أزياء الأدب والعلم أو الثقافة، فهو يكرر البنية ذاتها، ويكرر الخطاب ذاته بألفاظ وتعابير مختلفة.فلم يحدث من قبل في كل تاريخنا أن يكون للسياسة مثل هذا الحضور الطاغ في الممارسة والفكر والأدب، لقد ظل هناك هامش ولو ضئيل- حتى في أحلك الظروف- للخطابات الأخرى الأدب والعلم والفن، وكان الأدباء والمثقفون في الماضي- يستطيعون التحليق والغناء في فضاءات أكثر رحابة وحرية وفاعلية، فلم يكن المثقفون  في أي وقت من الأوقات جزء من مؤسسات السلطة السياسية  كما هو الآن بل ظل ينافح في سبيل الحفاظ على قدر محدد من المسافة المحترمة بين السلطة والأدب والثقافة- مسافة محددة وواضحة وفاعلة ومحترمة وكانت السلطة تسعى إلى مراضاة الثقافة وتمنحها ما تستحقه من التقدير والاحترام والهيبة والجلال. وأنا لا أحب المقارنة في الاحوال التاريخية والاجتماعية لأنني أومن بفكرة التاريخ الذي لا يتكرر مرتين ابدا _حتى وان بدى كذلك _، وكل عصر هو مسئولية اهله وجيله ، وحتى لا نحمل المثقف اليوم ما ليس وظيفته ولم يعد في نطاق اختصاصه ، من المهم ان ننظر الى المشهد بكليته ، فنحن في لحظة انحسار لسلطة ومكانة المثقف المحترم وبروز وعاظ السلاطين وإنصاف المثقفين الذين يعرضون بضاعتهم في سوق المسيطرين على مقاليد القوة والسلطة والثروة ، ثمة طفح هائل من السطحية والخفة والعته والابتذال وغياب الاحساس بالمسؤولية ، وتلك ثقافة تم تنميطها على مدى العقود السابقة من الخراب المنهجي لكل شيء طيب وجدير بالتنمية والرعاية ، والناس على دين ملوكهم ، والقوة هي التي تشكل المجتمع وليس العكس ، ونحن نشكل مؤسساتنا ثم تقوم هي بتشكيلنا، فكيف ما كانت نكون.

فيما يشبه الخاتمة

ربما كانت مهمة النخب العربية المثقفة اليوم هي مهمة مزدوجة: إذ عليها أن تعيد النظر في تنظيم نفسها في كتلة تاريخية متماسكة بما يجعلها قادرة على حمل الرسالة التاريخية في تجاوز أزمتها وأزمة مجتمعها هذا من جهة، ومن جهة أخرى الاطلاع بوظيفتها الأساسية في تنوير المجتمع وتنميته التنمية الثقافية المستدامة. فالمثقف هو ذلك الشخص الذي يقاوم ويتصدى لتمثيليات السلطات والطعن بشرعيتها والتشكيك فيما يسمى (بالروايات الرسمية) ومداومة نزع الأقنعة وتحطيم الأشكال النمطية للرؤية والفكر المهيمنة وتقديم صورة بديلة يحاول المثقف فيها أن يكون صادقـا ما وسعه الصدق مع نفسه ومع غيره ومع حقائق الأشياء. بهذا تكون صورة المثقف كما يلح ميلر “ليس داعية مسالمة ولا داعية اتفاق في الآراء، بل شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس وهو موقف الإصرار على رفض “الصيغ السهلة” والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو الإكليشات العامة الأيديولوجية أو الأفكار الشائعة وأنصاف الحقائق، بل عليه أن يمثل ويلتزم التعبير عن معاناة الأفراد والجماعات من أبناء شعبه والشعوب الأخرى، بصدق وأمانة وتجرد.. بحسب إدوارد سعيد.

زر الذهاب إلى الأعلى