رشا ضاحى تكتب: رحلة مع أسماء الله الحسنى.. (36) القدير
تتواصل رحلتنا مع أسماء الله الحسنى ونتحدث اليوم عن اسم من أسماء الجلال لله جل وعلا وهو اسم القدير جل جلاله.
وهذا الاسم الجليل ورد في القرآن الكريم على ثلاث صيغ وهي: القدير، والقادر، والمقتدر، جل جلاله
ورد اسمه (القدير) خمساً وأربعين مرة منها قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلكُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ (آل عمران: 189)
ورد اسمه( القادر )اثنتي عشرة مرة، خمسٌ منها بصيغة الجَمع ومنها قوله تعالى: ﴿بَلى قادِرينَ عَلى أَن نُسَوِّيَ بَنانَهُ﴾ (القيامة: 4).
وقوله تعالى : ﴿وَقالوا لَولا نُزِّلَ عَلَيهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُل إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمونَ﴾ (الأنعام: 37).
وأما (المُقْتدر) فقد ورد أربع مرات، منها قوله تعالى: ﴿في مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَليكٍ مُقتَدِرٍ﴾ (القمر: 55)
ومعنى اسم القدير جل جلاله، كما قال الشيخ السعدي رحمه الله: (القدير) كامل القدرة، بقدرته أوجد الموجوداتِ، وبقدرته دبَّرَها، وبقدرته سوَّاها وأحكمَها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعثُ العبادَ للجزاء، ويجازي المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون، وبقدرته يقَلِّب القلوبَ ويصرفُها على ما يشاء ويريد.
ومعنى القادر جل جلاله، كما قال الزَّجاج: القادر هو الله القادر على ما يشاءُ، لا يُعجزُه شيء، ولا يفوتُه مطلوبٌ، والقادر منا – وإن استحقَّ هذا الوصف – فإن قدرتَه مستعارةٌ، وهي عنده وديعةٌ من الله تعالى، ويجوزُ عليه العجزُ في حال، والقدرةُ في أخرى.
أما معنى المقتدر جل وعلا، كما يقول الخطابي : المقتدر هو تام القدرة الذي لا يحتجب عليه أي شيء.
والفرق بين هذه الاسماء ( القادر، القدير،المقتدر) هو: أن القادر هو المتمكن في حين أن القدير صيغة مبالغة منه كما يرى الزجاجي ، اما ابن الاثير فيرى ان المقتدر أبلغ وأعم في المعنى .
وَآثَارُ قُدْرَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذَا الْكَوْنِ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى فَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهَا عِبَارَةٌ، أَوْ يُشَارَ إِلَيْهَا بِإِشَارَةٍ، فَأَيْنَمَا وَقَعَ النَّظَرُ عَلَى شَيْءٍ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ؛ رَأَيْتَ كَمَالَ قُدْرَةِ الْقَادِرِ؛ فَإِذَا الْمُؤْمِنُونَ رَأَوْا ذَلِكَ زَادَهُمْ إِيمَانًا وَأَوْرَثَهُمْ تَقْوَى وَقُرْبًا مِنَ اللَّهِ وَخَشْيَةً، وَأَكْثَرُوا مِنَ الدُّعَاءِ بِهَذَا الِاسْمِ؛ حَتَّى فِي أَقَلِّ شَأْنِهِمْ وَفِي أَكْبَرِهِ، وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ”(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ)
ومن أثار قدرته جل جلاله إحياء الموتى، وقد وقع ذلك في مواقف عديدة كما جاء في القرآن الكريم ومن ذلك ما قصه الله تعالى علينا في سورة البقرة، حين قال عز وجل:
﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (البقرة: 259).
وأوجه قدرة الله في هذه الآية متعددة، وكل منها أعظم من الآخر:
الوجه الأول: أن الله تعالى أمات عزيرًا مائة عام، ليتحلل جسده بالكلية، ثم بعثه بعد الموت في سابقة لا تحدث إلا يوم القيامة.
الوجه الثاني: سأله الله تعالى: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ ﴾ (البقرة: 259)؛ ليظهر له عجزه عن الإحاطة بأحواله وشؤونه، ويعرِّفه قصور علمه بنفسه فضلًا عن غيره، مع كمال إحاطة الله بكل شيء.
الوجه الثالث: أن الله لم يشعره بطول الزمان، فمرَّت عليه مائة العام كأنها يوم أو بعض يوم، وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى بيده أن يغيِّر نواميس الكون، ويقلب هذه الحياة رأسًا على عقب، ويُغير لونها ونظامها وأهلها.
الوجه الرابع: من بدائع قدرة الله حفظه للطعام أعوامًا طويلة دون تغير.
الوجه الخامس: أن بدنه صار ترابًا وكذلك حماره، فتأثير الزمان على الأبدان اختلف عن تأثيره على الطعام، فقد أذِن الله للزمان أن يُحدث أثره المتعارف عليه بين الناس في تحلُّل الجسد، فمن غير القدير أذن للزمن أن يحدث أثره على الأبدان، ومنع تأثيره على الطعام؟!
الوجه السادس: أحيا الله حماره أمام عينيه، فراح يقول معترفًا: ﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (البقرة: 259)
وللإيمان بقدرة الله عز وجل التي دلّت عليها أسماؤه “القدير والقادر والمقتدر” آثارًا عظيمة وثمارًا مباركة تعود على العبد في دنياه وآخرته منها:
أن يُقّوِّي في العبد الاستعانة بالله وحسن التوكل عليه وتمام الالتجاء إليه كما في الحديث (وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك…).
ومن آثاره سلامة الإنسان من أمراض القلوب كالحقد والحسد ونحوهما. ومن آثاره تقوية عزيمة العبد وإرادته في الحرص على الخير وطلبه والبعد عن الشر والهرب منه.
ومن آثاره حسن رجاء الله ودوام السؤال والإكثار من دعائه لأن الأمور كلها بيده، ففي الحديث النبوي الشريف قال صلى الله عليه وسلم : (ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء).
قال الزبيدي رحمه الله (وإنما صار الدعاء كريمًا على الله: لدلالته على قدرة الله وعجز الداعي).
قال جل وعلا: ﴿ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا﴾ (الطلاق: 3).
فَمَنِ اتَّقَى رَبَّهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَيْأَسُ مِنْ رُوحِهِ، وَلَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَتِهِ؛ فَالْفَرَجُ آتِيهِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وحتى نلتقي دمتم في رعاية الله وأمنه.