عاطف عبد الغنى يكتب: مستقبل النقود.. والبنوك

قبل أريع سنوات إلا قليلا نشرت إلين براون، مقالا بعنوان: “كيف تجعل أنظمة الدفع عبر الهاتف المحمول في الصين من البنوك شىء عفا عليه الزمن ؟!” ، وباللغة التى تم النشر بها:

How China’s Mobile Payment Ecosystems Are Making ؟! Banks Obsolete

دعونى أولا أخبركم عن مؤهلات صاحبة المقال: هى محللة اقتصادية، ومؤسس المعهد المصرفي العام، ومؤلفة اثني عشر كتابًا فى أبحاث الاقتصاد العالمى، ولها أكثر من 300 مقالة اقتصادية منشورة على مدونتها الخاصة، وصاحبة برنامج إذاعي على قناة PRN.FM بعنوان: “إنها أموالنا “It’s Our Money”، وأهم من كل ما سبق أنها ممن يغردون خارج السرب.
والسرب الذى أقصده هو الإعلام الغربى الذى نأخذ عنه معلوماتنا، التى تغذى مفاهيمنا، فنبنى عليها توجهاتنا، أو نتخذ على أساسها قراراتنا.
ونادرا جدا، ما نقرأ من أو عن النصف الشرقى من العالم، الصين، وروسيا، وكوريا، وبشكل أشمل لا نطلع على ثقافة الشعوب الأوراسية، وعلومهم، واقتصادياتهم إلى أخره..
وتكفى هذه المقدمة لأن هناك ما هو أهم.
والأهم هو هذا المقال، الذى تبشر فيه الكاتبة بقرب انتهاء عصر البنوك التقليدية، لتحل محلها آليات أخرى تقوم بوظائفها بعد تطويرها بشكل كبير.
فى الصين مثلا تجاوزت شركات التكنولوجيا (الصينية) العملاقة، الاستخدام التقليدى لبطاقات الائتمان، ووظائف البنوك، إلى إنشاء أنظمة دفع رقمية منخفضة التكلفة عند التعامل بها، مقارنة بنظام بطاقات الائتمان الأمريكية الشهيرة التى تسحب رسوم زائدة من أموال التجار عند دفع الزبون بها، ويكون على التجار رفع أسعارهم لتغطية هذه الرسوم.

وعلى سبيل المثال فأن عملية شراء بما قيمته 100 دولار، والدفع ببطاقة ائتمان نموذجية، يذهب من المبلغ 97.25 دولارًا فقط إلى البائع، والباقي يذهب إلى البنك.
ولكن من يمكنه منافسة شركتى فيزا، وماستركارد ؟!.. الإجابة: الأنظمة المحلية الجديدة للدفع عبر الهاتف المحمول في الصين تستطيع ذلك.
ووفقًا لمقال منشور بتاريخ مايو 2018 في الموقع الأليكترونى الغربى الشهير “بلومبرج” تحت عنوان “لماذا تثير تطبيقات الدفع الصينية كوابيس المصرفيين الأمريكيين” جاء الآتى: “مدفوعات المستهلك” قد لا يتم تصميم مستقبلها في نيويورك أو لندن، ولكن يتم ذلك في الصين، هناك، حيث يتم تداول الأموال بشكل أساسي من خلال اثنين من النظم الصينية الرقمية التي تمزج بين وسائل التواصل الاجتماعي، والتجارة، والمصارف، تُدار جميعها من قبل اثنتين من أكبر الشركات قيمة في العالم.
وعلى العكس مما يحدث فى أمريكا، حيث تتغذى العديد من الشركات على رسوم معالجة المدفوعات، تعمل الشركتان الصينيتان.
ويسافر المصرفيون الغربيون والمسؤولون التنفيذيون في بشركات بطاقات الائتمان الغربية إلى الصين ويعودون محملين بقلق كبير من أنه يمكن أن تتم عمليات المدفوعات بكلفة أقل وسهولة أكثر بعيدا عن بنوكهم وشركاتهم.

الكابوس الذي يواجه صناعة المال الأمريكية هو أن شركات التكنولوجيا الكبرى – سواء كانت من الصين أو عملاقًا أمريكيًا مثل أمازون، قد تكرر نجاح أنظمة الدفع عبر الهاتف المحمول الصينية ، مما يؤدي إلى استبعاد البنوك.
ووفقًا لجون إنجين ، الذي كتب مقالا في دورية “أمريكان بانكر” بتاريخ مايو 2018، فأن الصين عالجت 12.8 تريليون دولارا مدفوعات عبر الهاتف المحمول في الأشهر العشرة الأولى من عام 2017.
واليوم حتى التجار في الشوارع في الصين لا يريدون التعامل بأوراق النقد، ويتم الدفع مقابل كل شيء باستخدام الهاتف ورمز الاستجابة السريعة (نوع من الباركود).
ويتم تشغيل أكثر من 90% من مدفوعات الهاتف المحمول الصينية من خلال “ألباى ويشات باى.. Alipay و WeChat Pay، وهما منصتان منافستان، تدعمهما أكبر مجموعتين للإنترنت في البلاد : “تنسنت هولدنج Tencent Holdings، وعلى بابا، Alibaba و Alibaba وهي أمازون الصين في حين أن Tencent Holdings هي المالكة لتطبيق WeChat، وهو تطبيق للرسائل والوسائط الاجتماعية، وتتعامل مع أكثر من مليار مستخدم.

وتمضى الكاتبة الغربية، تعدد مزايا أنظمة الدفع المحلية الصينية، التى تهدد عرش البنوك، مؤكدة أن القنوات الجدية سوف تصبح فى غضون سنوات هى القنوات الرئيسية للمدفوعات، وسوف تتطور لتصبح محاور أساسية لإدارة تفاصيل الحياة اليومية، للفرد على مدار الساعة، من طلب الطعام، إلى حجز الدكتور، والسينما، إلى أخره.

ونستشهد بمقال أخر وأخير، منشور في أكتوبر 2017 بعنوان “مستقبل البنوك ليس على الأرجح ملك للبنوك” ، وجاء فى المقال أن مبتكر التكنولوجيا آندي أوو سوليفان، لاحظ أن شركة أمازون لديها خدمة جديدة نسبيًا تسمى “أمازون كاش” ، حيث يمكن للمستهلكين من خلالها استخدام رمز شريطي لتحميل النقود في حساباتهم في أمازون، وهذه الخدمة مخصصة للعملاء الذين ليس لديهم بطاقات مصرفية، ولكن أوو سوليفان لاحظ أيضا أنها تثير بعض الاحتمالات المثيرة للاهتمام، حيث يمكن أن تعقد أمازون صفقة مع تجار التجزئة تسمح للمستهلكين باستخدام حساباتهم على أمازون في المتاجر، أو يمكنها تقديم ائتمان لشراء عناصر معينة.

وهنا لن يستطيع أي بنك أن يشارك عملاق تقني لديه بالفعل علاقة مع المستهلك مثل أمازون ويقدم للمستهلك خدمات إضافية.

وتقوم أنظمة الدفع عبر الهاتف بالفعل بتدريب العملاء على عدم الحاجة إلى البطاقات المصرفية، مما يعني عدم الحاجة إلى البنوك.

المفاهيم السابقة تأخذنا إلى أبعد مما ذكرنا، حيث يمكن لأمازون Amazon ، أو إباى ، eBay أو جرجسلست Craigslist، إنشاء نظام ائتمان رقمي يتجاوز الأموال التي أنشأها البنك تمامًا، ويمكن لمستخدمي النظام بيع السلع والخدمات عبر الإنترنت للحصول على ائتمان، يمكنهم بعد ذلك إنفاقه عبر الإنترنت للحصول على سلع وخدمات أخرى.
وسوف تشكل أرصدة هذا النظام المحلى عبر الإنترنت عملته الخاصة التي ينشئها المستخدم.
ويمكن أن تتداول الائتمانات في نظام مقاصة ائتماني رقمي مشابه لعملات المجتمع الرقمي المستخدمة في جميع أنحاء العالم، وهي الأنظمة التي يتم فيها إنشاء “الأموال” بشكل فعال من قبل المستخدمين أنفسهم.

ومثل عملات المجتمع، سيكون نظام المقاصة الائتمانية على غرار أمازون مستقلاً عن البنوك والحكومة؛ لكن أمازون نفسها عبارة عن نظام ضخم خاص هادف للربح، شبيه بأنظمة نظيرة في وول ستريت، تتمتع بسمعة مشبوهة، حيث تم اتهامها بأشكال مختلفة باستغلال العمال، والممارسات التجارية غير العادلة، والتدهور البيئي، واستخراج أرباح ضخمة من التجارة.
ومع ذلك، فإن الرئيس الأمريكى السابق ترامب، وهو يمينى ليبرالى، والسناتور إليزابيث وارين ينتمى لليسار، إلا أن كليهما تنبأ بتحويل شركتى أمازون وفيسبوك وغيرهما من عمالقة التكنولوجيا إلى مرافق عامة، وهذا يقود إلى احتمالات أخرى مثيرة للاهتمام، مثل أنه يومًا ما قريب يمكن أن يكون لدينا نظام رقمي وطني غير هادف للربح يعمل كمنظمة تعاونية، أو مرفق عام تعود فيه الأرباح إلى المستخدمين من خلال تخفيض الأسعار.
كما يمكن للمستخدمين إنشاء أموالهم الخاصة عن طريق “تسييل” ائتمانهم الخاص، في نظام عملة مجتمعي يكون فيه “المجتمع” هو الأمة أو حتى العالم.

وما سبق ليس احتمالات واقعية، وليست بعيدة عن التحقق، حتى ولو لم يتصورها أصحاب الخيال الفقير، والعقول الجامدة، فخلال 4 سنوات تحقق كثير مما تنبأت به إلين براون، عن أنظمة الدفع، ومع وباء كورونا، فرضت تلك الأنظمة نفسها، ومع حرب روسيا وأوكرانيا، انتظروا كثير من التغيير فى أنظمة العالم الاقتصادية.

اقرأ ايضا للكاتب:

 

زر الذهاب إلى الأعلى