د. ناجح إبراهيم يكتب: «فقه الأولويات»

كتب د/ناجح إبراهيم مقالاً بعنوان”فقه الأولويات “وتم نشره في جريدة المصري اليوم وهذا هو نص المقال:
فقه الأولويات

• حينما كنت شابا كان هناك رجل مسن متدين يواظب علي صلاة الفجر في المسجد ثم ينطلق بعدها إلي الشوارع ليجمع الصحف القديمة الملقاة في الشوارع ثم يحرقها في ساحة متسعة قرب المسجد الكبير, سألناه عن سر ذلك فأجاب : هذه الصحف فيها آيات قرآنية وفيها اسم الله مع أحاديث نبوية,وابتذالها هكذا يعد منكراً لابد من تصويبه,قلنا له: هذا أمر لن ينتهي وسيشغلك عما هو أهم وأفضل, فلن يتوقف الناس عن امتهان الصحف وإلقائها في الشارع بعد قراءتها ولن تستطيع المواصلة, أبي التراجع عن طريقه كان الرجل صاحب نية طيبة وعزيمة ماضية ولكنه كان شديد المراس, فظاً في طريقته, كان يدقق علي صلة الصفوف وتقاربها ويهتف قبل بدء الصلاة: “من وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله” أغتاظ بعض المصلين كبار السن فردوا عليه بعد فترة “الله يقطعك يا شيخ” اضطر لحذف المقطع الأخير واكتفى بالأول.
• راقبت الرجل فوجدته قد أضاع معظم جهده ووقته, في هذين الأمرين,ولو بذل نصف هذا الجهد في طاعات أخرى تنفع المجتمع لكان أولى وأجدى تفكرت في أمر الرجل وفي تصرفاتنا ونحن شباب فوجدت أنها أضاعت “فقه الأولويات” الذي دشنه النبي الكريم “ص” وأشار إليه القرآن, فقد قدم الرسول “ص” الإيمان علي العمل الصالح, وقدم العلم علي العمل, والفرض علي النفل, والكيف علي الكم, والفهم علي الحفظ, وقدم الراجح علي المرجوح, والفاضل علي المفضول, وفرض العين علي فرض الكفاية.
• والعبادات الاجتماعية التي يتعدي نفعها مثل الإصلاح بين الناس ورعاية الأيتام والمعوقين علي العبادات الفردية النافلة, ومحاربة الكبائر والموبقات والاهتمام بالواجبات المضيعة علي محاربة المكروهات والصغائر.
• فالانشغال طويلاً بمسائل النقاب والغناء واللحية مع ترك قضايا الأمة الكبرى وأدوائها الأصلية نوع من العبث لا ترضاه الشريعة.
• لقد قيل للشيخ الغزالي ما حكم تارك الصلاة؟ فقال حكمة أن تأخذه معك إلي المسجد أي بدلاً من الأخذ والرد في حكمه والاختلاف فيه أفعل الأفضل والأحسن والأرقى وهو أن تأخذه معك إلي المسجد وتنشغل بدعوته للصلاة بدلاً من تكفيره أو تفسيقه.
• مشكلتنا جميعاً في معايير الأولويات وتغييب فقهها, حتى صرنا نكبر الصغير,ونصغر الكبير, ونعظم الهين ونهون الخطير, ونؤخر أوائل الأمور,ونقدم أواخرها, ونكترث للصغائر ونهون الكبائر فترى الرجل يسبح كثيراً ولا يتحرز من المال أو الدماء الحرام, فيأخذ الرشوة مثلا دون استحياء, ونهتم بالنوافل علي حساب الفرائض, ونقدم مصالح الجماعات والأفراد علي مصالح الدولة أو الأمة, ونقدم الحرب علي السلام والصراع علي الوئام.
• إن تماسك المجتمع وترابطه يعد أولوية كبرى حتى أن هارون عليه السلام,استدل بها وهو يرد علي معاتبة شقيقه نبي الله موسي بعد أن عبد بنو إسرائيل العجل فقال: ” خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي”فصبر عليهم ولم يمزقهم أو يهجرهم لعلهم يرجعون.
• وقدم النبي محمد”ص”المصالح الجوهرية والمستقبلية علي المصالح الشكلية في صلح الحديبية فرضى بالشروط المجحفة فحذف من الوثيقة كلمات مثل: “بسم الله الرحمن الرحيم”, ووصف “رسول الله” للنبي, واكتفي بكلمه محمد بن عبد الله” وذلك كله لم ينقص قدره ورضي بشرط مشركي بأداء العمرة العام القادم وليس هذا العام, وكأنه يرسي قاعدة الضرورات أهم من الحاجيات والتحسينات, وأن الدين مقدم علي النفس, والثانية مقدمة علي المال, والمصلحة المتيقنة مقدمة علي المظنونة والمصلحة الكبيرة مقدمة علي المصلحة الصغيرة, مصلحة الدولة مقدمة علي مصالح الجماعات والأفراد,المصلحة الدائمة مقدمة علي العارضة,والمصلحة الجوهرية علي الشكلية والهامشية .
• هذا في المصالح أما في المفاسد فلا ضرر ولاضرار,الضرر لا يزال بمثله أو بأكبر منه,يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين,  يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلي, يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام, ودرء المفسدة مقدم علي جلب المصلحة, المفسدة الصغيرة تغتفر من أجل المصلحة الكبيرة, تغتفر المفسدة العارضة من أجل المصلحة الدائمة.
• كل هذا قرره الفقهاء الأوائل بناءً علي تأملهم لآيات القرآن وأحاديث الرسول “ص” , لقد ضحى موسى “عليه السلام” بتحطيم وحرق عجل من الذهب لتبقي عقيدة بني إسرائيل نقية صافية, ضحى بالمال من أجل الدين والعقيدة الصحيحة.
• فقه الأولويات يجعلك تقدم الأصول علي الفروع ولا تحول السنة إلي فرض, ولا الخطأ إلي خطيئة، ولا الخطيئة إلي كفر.
• فقه الأولويات هو الذي جعل الرسول “ص” يرد من يريد أن يجاهد معه ليرعى والديه “أحي والداك” قال الرجل “نعم” فقال له ففيهما فجاهد” وقال لآخر “ارجع إلي والديك فأحسن صحبتهما”.
• فقه الأولويات يجعلك تقدم حقوق العباد علي حقوق الله مما جعل الرسول “ص” يرفض الصلاة على من لم يسدد دينه حتى لو استشهد، “يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين”.
• فقه الأولويات هو الذي يجعلك تفرق بين الكفر والظلم, وبين الكفر والفسق, وبين الكفر الأكبر والأصغر, وبين معصية آدم ومعصية إبليس, وبين معصية الشهوة وإثم الكبر, وبين معاصي القلب والجوارح, فمن كانت معصيته في الشهوة ترجو له خيراً ومن كانت معصيته في الكبر فلا ترجو منه خيراً, معصية آدم كانت في الشهوة فتاب وتاب الله عليه ومعصية إبليس كانت في الكبر فلم يتب.
• غياب فقه الأولويات هو الذي جعل أهل العراق يسألون ابن عمر عن حكم دم البعوض فأجابهم مستنكراً, قتلتم ابن بنت رسول الله وتسألون عن حكم دم البعوض.

زر الذهاب إلى الأعلى