د. قاسم المحبشى يكتب: في طرق البحث عن المعنى
اللغة الصوفية لغة شعرية، وشعريتها تتمثل في أن كل شيء فيها يبدو رمزاً، كل شيء فيها هو ذاته وشيء آخر.. بهذه اللغة تخلق التجربة الصوفية عالماً داخل العالم، تتكون فيه مخلوقاتها، تولد وتنمو، تذهب وتجيء، تخمد وتلتهب.
وفي هذا العالم تتعانق الأزمنة في حاضر حي فوري ومباشر ومستمر وهي لذلك تختلف عن اللغة الدينية الشرعية التي هي في جوهرها لغة سلطة بينما الأولى هي في جوهرها لغة حب، والحب هو كذلك لا يقال بل يعاش، تقال صور منه ولكنه في ذاته كمثل المطلق، عصي على القول، ذلك أنه حدود العقل والمنطق وخارج حدود الكلام.
إن الحقيقة في مثل هذه اللحظة – لحظة الحب – لا تجيء من الخارج من الكتب أو الشرع، أو القانون، أو الأفكار والتعاليم، وإنما تجيء من الداخل، من التجربة الحية، من الحب من التواصل الحي الحميم مع الله والكون والأشياء.
وأن الانسان ظامئ أبداً الى أن يجسد ويتجسد إلى أن ينفصل ويتصل، ظامئ إلى الوحدة لا إلى التجريد وإلى المشاركة لا إلى الهيمنة.
وفي مثل هذه اللحظة أيضاً يزداد الانسان يقيناً بأن في أعماقه محيطاً تسوره وتلجمه سدود وحواجز من كل نوع، وأن حياته ستظل زبداً إن لم يهبط فيه محطماً سدوده وحواجزه، حيث يرى ما لم يره، (ما لا يرى) ويفكر بما لا يفكر فيه ويحس بما كان يعتقد أن أحداً لا يحظى به.
وحيث يفتح له عبر هذا الهبوط في هذا الميحط، عالم ليس محدوداً بالاشياء، وإنما حدوده الفكر والخيال.
وربما كانت هذه اللحظة لحظة الحب بامتياز: “ففي الحب يتجاوز كل من المحب والمحبوب فرديته، يتجاوز كل من العاشق والمعشوق كينونته، يتجاوز كل من الرجل والمرأة أنيته في وحدة، يشعران فيها أنهما أكثر مما هما في الواقع والمطلق، الوجود وما وراءه ولا يعود كل منهما إلا تجلياً للآخر يتجلى له، ويتجلى فيه ويتجلى عليه، ويتجلى معه ويتجلى كمثله”
من هذا السر العميق أنبثقت الصوفية بوصفها تجربة وجودية تتصل بما هو خفي وغيبي وعميق بحسب أودنيس والاتجاه إلى الصوفية أملاه عجز العقل والشريعة الدينية” عن الجواب عن كثيرمن الأسئلة العميقة عند الإنسان، وأملاه كذلك عجز العلم، فالانسان يشعر أن ثمة مشكلات تؤرقه، حتى عندما تحل جميع المشكلات العقلية والشرعية – الدينية والعلمية، يظل هناك شيء في أعماق الإنسان غير مشبع، متقد ملتهب متعطش للإشباع وهذا معناه: أن في الوجود جانباً باطناً، لا مرئياً، مجهولاً، وأن معرفته لا تتم بالطرق المنطقية – العقلانية، وأن الإنسان دونه دون محاولة الوصول إليه، كائن ناقص الوجود والمعرفة، وأن الطرق إليه خاصة وشخصية وفريدة وحميمة ولهذا سنجد أن هناك قرابات وتآلفات بين جميع الاتجاهات التي تحاول أن تستشرف هذا الغيب.
فالتجارب الكبرى في معرفة الجانب الخفي من الوجود تتلاقى بشكل أو بآخر فيما وراء اللغات وفيما وراء العصور، وفيما وراء الثقافات.
ويرى أندريه بريتون إن: ” التجربة الصوفي هي سفر لا يقتضي أن تخرج من الوجود ومن نفوسنا، وإنما يقتضي على العكس أن ندخل أكثر فأكثر في الوجود وفي أنفسنا، واللانهاية ليست خارج المادة، بل هي داخل المادة اللانهاية هي الإنسان نفسه”.
هكذا نكون بهذا التمهيد قد خلصنا الى أن العلاقة بين الأنا والوجود، بين الذات والموضوع، بين الإنسان والله هي علاقة معرفة، لذلك تكبر المعرفة بقدرما تصغر المسافة بينهما؛ المعرفة هي تبعاً لذلك علاقة إتحاد بين الذات العارفة والشيء المعروف، المعرفة الحقيقية هي معرفة الشيء من داخله وذلك أنها تلغي المسافة بينه وبين العارف، وتتيح للعارف تحقيق ذاته، فلا نعرف الوجود إلا بالشهود وفقاً للمصطلح الصوفي أي بالحضور أو الذوق أو الإشراق أو الفناء.
ولكي تعرف عليك أن تبلغ درجة النقاء فلكي تعرف “ابتعد عن ذاتك” يقول الجاحي يقول صوفي آخر: “بقدر ما تكون أجنبياً عن نفسك، تكون قادر على المعرفة” وهذا هو معنى (الاغتراب) عند ريتشارد شاخت، إنه ذلك الشعور المفاجئ الذي يباغت المرء بأن هذا العالم قد أصبح غريباً بالنسبة إليه، أي أصبح غير مؤلفاً، وكما أشار هيجل، إن ما هو مألوف يصعب معرفته وفهمه فالألفة تعرقل المعرفة، والغاطس في البحر لا يرى البحر.
والفلسفة أي المعرفة الحقة، تبدأ في تلك اللحظة التي نحس فيها بأن تلك الأشياء التي كنا نعرفها أو نألفها حق الألفة صارت غريبة بالنسبة لنا، بقول شاخت: “من الصعب أن نرى من خلال منظور قريب، وأن ندرك ما هو قريب بالنسبة لنا، ذلك لأن الإدراك يتطلب مسافة ما ويتشكل من إحراز الانتصار على هذه المسافة”.
والفلسفة هي وليدة الغربة، إنها تبدأ حينما يدهشنا شيء ما بغرابته وهذا ما كان يقصده المنور الفرنسي الشهير جان جاك روسو بقوله: ” إننا نحتاج الى الفلسفة كي نستطيع رؤية الأشياء التي نراها ونعيشها كل لحظة من حياتنا” ذلك لأن الأشياء الأكثر قرباً وحميمة بالنسبة لنا هي أكثر غربة وبعداً عن فهمنا.