قراءة فى مجموعة « معركة درنة » للكاتب علاء أبو زيد

قراءة الناقد: زكريا صبح

أولا: الرمزية فى قصص علاء أبو زيد

للقصة القصيرة مذاق خاص  ونكهة مميزة والقارئ لها كالمتذوق لطعام شهى لا يعرف اسمه ولا كنهه ولكنه يلتذ به، وكذا القارئ للقصة القصيرة لا يعرف ـى عناصرها أكثر جمالا هل التكثيف أم المفارقة أم غرابة اللقطة المنتقاة أم الرمزية التى  يدغدغ بها الكاتب عقل قارئه أم الدلالة التى يتركها النص فى نفس من يحاول فك رمزيته وتأويل دلالته؟؟

ربما كانت الرمزية هى اشد ما يميز  هذه المجموعة إذ النصوص ليست مقصودة لذاتها بل ترمز إلى معان لا تحب القصة القصيرة الإفصاح عنها بمباشرة  ممجوجة ، ولذا كلما أوغلت فى نص من نصوص المجموعة ستجد نفسك وقد اغمضت عينيك  متخيلا معنى  جديدا  ربما لم يقصد اليه الكاتب ولكن فى كل الحالات ستجد نفسك فى حالة تأويل  جميلة  محلقا بروحك وخيالك  فيما  كان الكاتب يقصد اليه  وهذا ما يتبدى لك من الوهلة الاولى فى النص الاول  ومعركة درنة ،  ستجد نفسك تسأل  هل الكاتب يقصد معركة طفولية تقع  لمعظم اطفالنا  فى سنوات دراستهم ؟

هل كان اختيار  ليبيا خبط عشواء  ؟

هل كان لذالك الاختيار علاقة بما جرى  لبعض  مواطنينا من قتل فى درنة على ايدى المتطرفين المجرمين ؟

هل كان استداعاء الجد والعصا بدون مبرر ؟

هل كان اختيار  مدرسة الموسيقى مصادفة ؟
اسئلة مشروعة يطرحها النص على قارئه، ويذهب كل قارئ له مذهبا  يخصه  معتمدا على ثقافته  ومرجعيته وقدرته على تأويل النصوص .
__

وفى قصته البديعة  ٣ يوليو نلاحظ رمزية  التاريخ  الذى يمثل مرحلة مفصلية فى تاريخ الأمة المصرية والذى اختلف حوله الناس فمنهم من رأه اتقلابا ومنهم من رأه انتصارا.

لكن الرمزية الاشد وضوحا فى هذه القصة هى السيارة القديمة  التى  ترمز فيما اظن  الى مصر ، وطريق السفر  الوعر المظلم  الذى تسير فيه  والتخبط الذى  تعانيه من اجل الوصول  ،  وانظر معى الى حالة التوقف التى انتابت السيارة  وانعطافها الى جانب الطريق فى انتظار  ضوء تهتدى به لاستكمال السير  ومواصلة الرحلة ، كأنه يستشرف المستقبل لما الت اليه الاوضاع بعد الثالث من يوليو الذى اعقب الثلاثين من يونيو.

طالع المزيد:

وعلى هذا المنوال تسير معظم قصص المجموعة  حتى النوفيلا التى جاءت مكتملة  فى نهاية المجموعة فيما يقرب من خمس وخمسين صفحة  حملت فى مضمونها العام  رمز ضياع  الوطن واهله فى  حال  وقع  رهينة صراع الايدولوجيات  وتخبط قادته  فى سياسات فاشلة لا تراعى  خصوصية  هذا الوطن وقدرته على اجتياز الصعاب  فترهق كاهله بالاعباء  تتلوها اعباء ، ولن يغيب عنا بالضرورة رمزية الصيدلية المنوط بها علاج الناس فاذا بها تقدم  سموما  مخدرة ، ورمزية الصحفى الذى  لم يجد لنفسه قدما فى بلاط الصحافة فتحول من قائد منوط به تنوير المجتمع الى قواد  لا يأبه إلا  لنزواته.
إاننا بلا شك امام كاتب يعرف كيف  يعالج  القضايا الشائكة  بمبضع  الرمزية  الدقيق.

الروح الساخرة فى أدب أبو زيد

فى قصته ٣ يوليو   نراه  يصف السائق بانه ليس ثرثارا  رغم انه سأله  اسئلة كثيرة   فلا تملك ازاء ذلك الا ابتسامة  ترتسم على شفتيك  لانه  ينقل بدقة حال معظم السائقين الذين لا يكفون عن  طرح الاسئلة والثرثرة فى اى شئ  وفى اى وقت، ثم  رغم حالة سيارته المتردية  نراه يعدد مزاياها  وكأنه  موديل االعام نفسه لم يمسسها عطب ولا سوء، عندما يكون الوطن الهم  الأول للكاتب.

………………………………..

إن الناظر  للروح التى تسيطر على قصص المجموعة  لن  يخطئ   الروح الوطنية  والتطلع الى مستقبل يليق بالوطن  وارتباط الوطن بزعيمه  ،  وذلك ما نلاحظه فى قصة جمال عبد الناصر ، هل يكفيك ان يكون العنوان بهذه المباشرة  كى تتأكد من حس الكاتب الوطنى  ام  انت بحاجة الى استكمال النص لترى كيف  جعل  جدول الماء الصغير  حائلا دون الوصول  الى الحديقة   التى بها ما لذ وطاب من الفواكه كناية عن رغد العيش.

هل أنت بحاجة كى تعرف هذه الهمة التى انتابت الشباب فى محاولاتهم عبور جدول الماء فقط لأنه سيفوز بلقب ابن الزعيم؟!.

لقد كان هذا  ايمانا راسخا فى فترة من فترات الامة  ،  لكنك ستندهش عندما تجد الكاتب يقول لك فى ان المتسابقين فى حب الزعيم سقطوا فى منتصف جدول الماء وغاصت ارجلهم فى الطين، وربما كان حسه الوطنى  وضميره  المهنى  و شعوره بالمسئولية  تجاه وطنه   باديا فى معظم قصص المجموعة خاصة  فى نصه  الرائع  فص ملح، واسمعك الان تكمل المثل ،فص ملح وداب، مدخل رائع يؤهلك للنهاية  اذ انك ستعرف من غير عناء اننا امام  حالة اختفاء   وسيكون عليك معرفة  سبب هذا الاختفاء.

وهنا تبدو قدرة الكاتب على بلورة  الصراع الذى دار ابان فترة تولى  فصيل الاخوان  السلطة فى مصر   فتراه يجمل المشكلة  بين  شخص  يؤرقه اهتمامه بالجنس  وفى ذلك  يمضى الكاتب مع  الشائع الذى تردده العامة عن الفصيل الذى يتبنى  الاسلام السياسى  وكيف أن جل اهتمامه هو الجنس  وجعل من الرجل  رمزا للتيار كله ورمزا  للمؤيدين  للرئيس محمد مرسى  ، فيما كان الراوى واصدقائه  من التيار المدنى  يرون ان مصر اصبحت او باتت تضحك بعد غياب الإخوان واستطاع الكاتب أن يكتب بجمل بسيطة  ويصور حجم الخلاف آنذاك.

كتب يقول على لسان المؤيدين  للتيار المدنى : مصر تتسع للجميع

بينما رد  عليه رمز التيار الدينى : ولكم فى القصاص حياة

ورغم أن الكاتب  قصد من هاتين الجملتين  ان يصور  حجم الخلاف الا ان الزمن اثبت أنهما الحل عينه.

………………………………..
لن تكون فى حاجة لبذل جهد مضاعف كى  تتأكد من  الموضوعات  التى تؤرق كاتبنا ،  الوطن   المنقسم  على ذاته بين واد  وبدو  ، بين  نيل وصحراء  بين عاصمة  وأطراف بين متن وهامش.

فى مدينة الهواجس يتضح الأمر جليا  كيف تنفصل الاطراف عن  المركز  فتعشعش الغربة  فى نفوس ساكنيها  ، حتى يختلط الامر على امرأة  تشتاق لزوجها  عندما تجده  ، هل هو الذى غادرها  ام مجرد  شبه لشبحه ، ويختلط على الرجل امر بيته الذى  يدخله بغير ارادة منه ،  هل هو بيته الواقع فى اقصى  اطراف الوطن  ام ان  بيته فى قلب العاصمة  الصاخب، ولذا ليس غريبا ان تأتى القصة رائعة من دون تحديد أسماء لأبطالها، لكن يبقى  طلبها المشروع  الذى يخاطب ضمير كل مسئول: أين زيارات  طلاب الجامعات  وقوافل المصطافين  وزحام التجار ؟.

………………………………..

الاغتراب فى قصص أبو زيد

عندما تصل حساسية الكاتب درجة كبيرة  ويصبح اكثر شفافية   يصبح فى الان ذاته اكثر معاناة  واشد اغترابا  ، تجعله  الحساسية  اشد انفعالا  بمأساة الاخرين  وتجعله  الشفافية  اكثر  التحاما  بهم  ولذا  تبدو معاناته  فى تصوير اغترابهم  وانقسام ذواتهم  حتى انه قد يتقمص ادوارهم  متحدثا بلسانهم ، ولعل هذا ما وضح جليا فى قصته  حذاء يتسع ليلا  ،حيث تكمن غربة البطل الرئيس الذى  يستعديه السرد والسارد  باعتباره معادلا  موضوعيا لكل من  يشعر انه مثل خيل الحكومة لا  فائدة منه.
ثم يتقمص الكاتب صوت البطل الذى  يعيش لحظة  اغتراب شديدة الالم  حيث يهيئ له خياله او مخاوفه  ان احدا يتبعه يسمع وقع خطواته كلما تحرك  ثم  يتذكر ان صوت الخطوات يشبه صوت خطوات صديقه الذى كان يشعر انه مثل خيل الحكومة  وكأننا امام تبادل المواقع  كأننا عرفنا الان معاناة  البطل الرواى  الذى يتحدث بضمير الانا باعتباره  راويا مشاركا  ، بتواطؤ  جميل من الكاتب الذى تقمص الشخصيتين  معا

إنها روعة الفن فى المرواغة واللعب والبعد عن  المباشرة والوضوح فى قصة المعتزلون   – سنعرف فى النهاية انها نوفيلا وليست قصة -يدخل الكاتب فى مغامرة اخرى عندما يتبنى  الرواية  بضمير  المخاطب  فيقول عندما  تدخل  تكتشف انه يجلس ……. إلى أخره، مما يعنى وعى الكاتب  بضرورة  كسر ملل قرائه  من تكرار  استحضار الراوى العليم او المشارك  فيلجأ الى استحضار القارئ باعتباره المخاطب والمعنى مباشرة بالحكاية  وفى هذه القصة ايضأ يلجأ الكاتب الى  قسمتها الى مقاطع  سردية  مرقمة  وصلت الى  اثنين وعشرين مقطعا.

وربما استطعنا  بضمير مستريح ان  نقول ان  الكاتب مارس خداعه الفنى لنا  ولم  يكتب على صدر كتابه  الى جانب  توصيف العمل  بانه  مجموعة  قصصية  انه ايضا يشمل نوفيلا  قصيرة بعنوان  المعتزلون  ،  ولانه مخلص او مخادع – خداعا فنيا –  قسم النوفيلا الى  مقاطع  كأنها قصصا قصيرة أو هكذا بدت.

لكن البناء  الروائى  ينهض  مقطعا بعد اخر حتى  يستقيم بناء معماريا  اشبه ما يكون بالرواية وابعد ما يكون عن  روح القصة القصيرة التى تعتمد على  زمن محدد  وقصير  فى ان واحد ، وتفضل  عددا  محدودا من الشخصيات  وتحبذ ان يدور الحدث فى مكان  محدد ، وكذلك  لا تحب تشعب  الموضوعات المناقشة ، لذا  ينحو هذا النص نحو الرواية  ،  وفيه حاول الكاتب عبر لغة  رشيقة  متقافزة  كاحداث  العمل  ، وجمل قصيرة  كانفاس ابطاله  ،  وتغير فى ضمائر  الخطاب ، كتغير  مواقف الأبطال المفاجئ ، اقول فيه حاول الكاتب معالجة مرحلة  الانفتاح الاقتصادى  والقبضة الامنية وتمدد التيار الدينى فى مقابل  انتشار التيار  الشيوعى ،  رصد الكاتب  الانهيار الاخلاقى الذى صاحب الانفتاح الاقتصادى وانغلاق الافاق السياسية  ، مما جعل المجتمع  هاربا من نفسه ملتجأ الى المخدرات بحجة  المتاعب الجسدية ، والحقيقة ان المجتمع يريد ان  يعالج  الاضطراب النفسى والروحى الذى  سقط فيه  جراء  الاضطراب السياسيى والاقتصادى.

فى النهاية لا نملك الا الامتنان للكاتب الذى  يعرف ان جوهر الفن  هو اللعب  ويعرف ان جوهر  القصة هو الرمز ، ويعرف ان جوهر الرواية او النوفيلا هو  الصراع  ويعرف أن جوهر الادب هو اللغة العذبة  الرشيقة  ، وليس هذا بمستغرب على رجل  يحترف الكلمة المنطوقة عبر ميكرفون الإذاعة ويجيد الكلمة المكتوبة عبر قصصه البديع.

زر الذهاب إلى الأعلى