رفعت رشاد يكتب: الأستاذ لا يكتب

«الأستاذ يكتب».. عبارة سمعناها كثيراً كصحفيين عندما كنا نطلب مقابلة رئيس التحرير أو أحد قيادات الجريدة، كان الأستاذ يغلق باب مكتبه ليعصر ذهنه ويفرز مقالاً أو تحقيقاً صحفياً أو أياً ما كان يكتبه.لا أحد يمكنه أن يقطع حبل أفكار الأستاذ، الكل ينتظر حتى يُنهى الأستاذ عمله ويستدعى سكرتيرته ويعطيها ما أفرزه مكتوباً على ورق دشت من بقايا ورق الطباعة ويأمرها بلهجة منتشية: «ابعتى ده للمطبعة».

كل كبار السن من الصحفيين عاصروا هذا المشهد وسجلته الأفلام القديمة.

كان الأستاذ يبذل جهداً كبيراً لكتابة موضوع صحفى متميز أو مقال مؤثر، كان يبحث عن المعلومات ويمزجها بالأخبار ويضيف عليها تحليلاته الخاصة، كان يعانى حتى يخرج مقاله لائقاً به، والأستاذ الشاطر كان يستعين بالمراجع والقواميس والمعاجم وكان يحتفظ بكل قصاصة ورق ليستفيد بها.

اختفى هذا المشهد من حياتنا الصحفية.. وفى زمننا الحالى سنجد أن الأستاذ لم يعد يكتب! لم يعد يكتب بطريقة الماضى ولم يعد يغلق بابه وتعلن السكرتيرة الطوارئ لأنه يكتب، صار الأستاذ يكتب فى كل وقت وأى مكان.

لم يعد فى حاجة إلى قواميس ومعاجم أو قصاصات الورق. صار يكتب فى الحديقة أو فى النادى أو بالمقهى، المهم أن يكون لديه القدرة على الاتصال بالإنترنت.

صار جوجل صديق الكُتاب والصحفيين المقرب، عن طريقه يمكن للصحفى أن يستعين بآلاف المراجع والمصادر وأن يستعيد التصريحات التى صدرت من قبل من جميع المسئولين فى العالم عن قضية ما.

صار الصحفى قادراً على زيارة مكتبات العالم وأرشيفات دور الصحف وهو فى مكانه يستمتع بتناول آيس كريم أو نسكافيه باللبن.

لم يعد ذلك عيباً فى مهنتنا، إنما ما يسيئه أن يكون مجرد نقل فقط وليس نقلاً بتصرف فى المعلومة.

بعض الصحفيين طوروا من أدائهم وصاروا يستعينون بالذكاء الاصطناعى آخذين خطوة استباقية آملين أن يساعدهم ذلك على تحقيق المزيد من التميز والإتقان، لكن قد لا يجدون مبتغاهم سريعاً فالذكاء الاصطناعى حقق طفرات فى مجالات علمية أو صناعية، لكن ما زال الإنسان هو المبدع فى الفكر والأدب ولديه القدرة على صياغة المشاعر ووصف الأحاسيس ونقل الانطباعات والتعبير بلغة تصل إلى العقل والقلب، وهو ما يفتقده الذكاء الاصطناعى حتى الآن.

هذا التقدم المذهل يُسرع إيقاع الزمن وتفاصيل الحياة ويلتهم أجزاء كثيرة من حلاوتها ومن استمتاعنا بإنسانيتنا، لكنه حقيقة واقعة وصار علينا التعامل معها، ولم يعد أى صحفى أو كاتب يمكنه أن يباهى بأن كل ما كتبه من بنات أو أولاد أفكاره.

كنا نستنكف من قبل استعانة بعض كبار الصحفيين بمرؤوسين لهم ليساعدوهم فى إعداد مادة صحفية للنشر، سواء فى الكتب أو فى الصحف، الآن ربما نعيد تقييمنا لهؤلاء السابقين ونرى أنهم طليعيون لم يروا فيما فعلوا أى غضاضة.

صار جوجل والذكاء الاصطناعى صديقين حميمين للكُتاب والصحفيين، ولم يعد الأستاذ يغلق باب مكتبه عليه وينفرد بنفسه لكى يكتب، فداخل المكتب سيكون معه صديقاه العزيزان، جوجل والذكاء الاصطناعى، يساعدانه بكل أريحية لكى يكتب.

زر الذهاب إلى الأعلى