رفعت رشاد يكتب: ذكريات 5 يونيو 1967
بيان
ما بين نكسة يونية 67 وانتصار أكتوبر 73 سنوات قليلة جدا فى عمر الزمن، 6 سنوات لا تكاد تمثل لحظات فى عمر الشعوب، لكن هذه اللحظات حفرت أخاديد من الحزن والألم فى نفوس، وضمائر المصريين الذين عاشوها.. وفى مقال الكاتب الكبير رفعت رشاد “المنشور” اليوم الأحد، فى صحيفة الوطن، قبس من سيرة الحزن، ولمحة من نشوة الانتصار فى أكتوبر 73، وفيض من مشاعر تعبر عن التجربتين.. طالع المقال فى التالى:
هى ذكريات قاتمة، حتى أرقام التاريخ صارت قاتمة. ارتبطت فى أذهاننا بالسواد والحُزن والنكسة والهزيمة. ارتباط التواريخ بالأحداث مؤثر، فعندما نذكر هذا التاريخ نذكر كل ما هو مُحزن، وعلى العكس عندما نذكر 6 أكتوبر 1973، فإن وجوهنا تتهلل بالفرحة. كان 5 يونيو تاريخاً مشئوماً للأمة العربية والإسلامية فيه اندحرت جيوشنا واحتل اليهود القدس بجانب أراضٍ عربية شاسعة.
كانت مصر فى حالة حرب مبكرة. كنا نسكن – وما زلنا – فى شبرا مصر، كان يمر فى الشارع بشكل مستمر أعضاء الاتحاد الاشتراكى، يهتمّون بالأحوال ويطمئنون على اتخاذ الإجراءات الخاصة بالدفاع المدنى ويصرخون منادين فلان أو علان عليه أن يطفئ النور.
كانت التعليمات بدهان كل النوافذ الزجاجية باللون الأزرق القاتم منعاً لتسرب الضوء إلى الخارج حتى لا ترصده الطائرات الإسرائيلية التى كانت تجوب فى سماء القاهرة.
بيتنا كان فى الطابق الأول، لم يكن المبنى مرتفعاً، فكنا فى الطابق الأول والأخير، بينما يقيم فى الطابق الأرضى ملاك المنزل، تأخر أبى فى العودة، وبدأت غارة إسرائيلية تشن غاراتها، أصابنا الفزع ونزلنا جميعاً إلى الطابق الأرضى ومكثنا أسفل السلم.
كانت الطائرات تدك كل ما يصادفها وشعرنا بأنها تحلق فوق بيتنا. عندما عاد والدى شعرت بالاطمئنان، استمرت الغارة دقائق لكنها كانت دهرا، كوادر الاتحاد الاشتراكى تجوب المنطقة ويصرخون بأصوات عالية لطمأنة المواطنين والتحذير من إشعال أى نوع من أنواع الإنارة.
انتهت تلك الغارة، لكن لم تنتهِ الغارات، سارعت السلطات والتنظيم السياسى إلى بناء الخنادق فى المساحات المفتوحة وبناء سواتر جدرانية أمام مدخل كل بيت، وتوالت التعليمات للنزول إلى الخنادق فى حالة حدوث غارة.
صارت صافرات الغارات جزءاً من حياتنا، كنا نسمعها على مدار الوقت، صباحاً، ظهراً، عصراً، ليلاً، وفى كل مكان، فى المدارس، والمستشفيات، والمساجد، وأماكن العمل، كنا فى حرب داخل بيوتنا، حرب اقتحمتنا وهدّدت حياتنا.
لم يكن لدينا سلاح جوى يتصدّى لطائرات العدو، لم يكن لدينا صواريخ لضرب طائرات العدو، كنا نُلملم أشلاءنا جسدياً ونفسياً ومعنوياً.
صارت إسرائيل بالنسبة لنا البعبع الذى نخافه، صار جيشها الجيش الذى لا يُقهر، كسروا قائدنا، كسروا شعبنا، وأعلن القائد أنه يتنحى.
كان خطاب الزعيم جمال عبدالناصر نقطة فاصلة فى مواجهة إسرائيل.
خرج الشعب المصرى ليلاً عن بكرة أبيه ليعلن تمسكه بعبدالناصر ويطالبه بعدم التنحى، ليعلن عدم الانكسار وتجديد الصمود فى مواجهة العدو.
هب الشعب المصرى مضمداً جراحه رافضاً الهزيمة ليعاود نضاله لتحرير أرضه واسترداد كرامته.
استجاب ناصر لنداء ومطالب الشعب. عاد ليبنى من جديد جيشاً حديثاً. عاد ليشن حرب استنزاف ضد العدو داخل خطوطه الخلفية. استعاد أبطالنا ثقتهم فى أنفسهم وفى قيادتهم الممثلة فى عبدالناصر وقادة القوات المسلحة.
كبّدوا العدو خسائر فادحة مادية ونفسية. وجاء النصر بعدما قدّم كل فرد فى الوطن أغلى ما عنده. عادت الكرامة والعزة والثقة فى جيشنا الذى عبر وانتصر.
كانت ذكريات يونيو مريرة، لكن ذكريات أكتوبر عطرة وسعيدة.