رفعت رشاد يكتب: «كيسنجر» واللعب مع الكبار
لا يحتاج اللاعبون الكبار عضلات منتفخة أو مسدسات سريعة الطلقات، إنما ذخيرتهم عقولهم المشحونة دائماً بالأفكار والخطط والقدرة على التأثير والإقناع، وبجانب ذلك المصداقية والثقة.
أعجب العالم كله الأسبوع الماضى بما قام به هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق ومستشار الأمن القومى للرئيسين نيكسون وفورد. قام «كيسنجر» بزيارة الصين ولقاء القادة هناك.
تخطى «كيسنجر» عمر المائة عام، لكنه يسافر ويحاور ويناقش وهو حاضر الفكر متوقد الذهن وقادر على إقناع قادة العالم الكبار بما يريد أن يقنعهم به.
التقى من قبل مع الرئيس الروسى «بوتين» وأدلى بدلوه فى مسألة الحرب الروسية فى أوكرانيا ودعا أوكرانيا للتنازل عن جزء من أراضيها لصالح السلام – هذا رأيه – واليوم فى الصين يلتقى الرئيس شى جين بينج ووزيرا الخارجية والدفاع، رغم أن الأخير خاضع للعقوبات الأمريكية ومحظور لقاؤه وأدلى «كيسنجر» بتصريحات وكذلك الرئيس «شى» وهو ما كان حديث العالم خلال الفترة الماضية.
قال «كيسنجر» إنه سعيد للقائه الرئيس «شى» فى الفيلا 5 بدار ضيافة الدولة فى الصين «دياويوتاى»، وهو نفس المكان الذى نزل فيه ضيفاً على الصين لأول مرة عام 1971، والتقى خلال زيارته تلك مع رجل الصين القوى شواين لاى تمهيداً للقائه مع الزعيم ماو تسى تونج، وبعد ذلك زيارة الرئيس الأمريكى نيكسون للصين.
كانت جولات كيسنجر فى الصين حدثاً دولياً غير خريطة العالم سياسياً واستراتيجياً وبداية ظهور الصين قوة عظمى.
خلال سنوات تم توقيع بيان شنغهاى بين أمريكا والصين الذى أقر فى أمريكا الموقف الصينى المتمثل فى وجود صين واحدة، لا اثنتين، أى لا وجود لتايوان التى كانت من قبل اسمها فرموزا والتى كانت تحتل مقعداً دائماً فى مجلس الأمن الدولى باعتبارها تمثل الشعب الصينى والذى انتقل إلى الصين الأم وحتى الآن.
بعد تطبيع العلاقات مع أمريكا خرجت الصين للعالم قوة اقتصادية وعسكرية كبيرة جعلتها أحد موازين القوى الدولية التى لا يمكن تجاهلها بأى شكل، صارت لاعباً كبيراً مع أمريكا وروسيا، باعتبار أن بقية الدول توابع للولايات المتحدة.
يتمتع قادة الصين وعلى رأسهم الرئيس شى بقدرات سياسية كبيرة، وهم متمرسون بحكم تربيتهم السياسية داخل الحزب الشيوعى ولذلك تخرج تصريحاتهم متوازنة.
يقول الرئيس شى: حريصون على تواصل العلاقات مع الولايات المتحدة لصالح العالم وللبلدين، وفى نفس الوقت يؤكد شى ووزراؤه أن موقف الصين ثابت تجاه مسألة تايوان، وأن على الولايات المتحدة أن تراجع مواقفها وعلى الأمريكيين أن يتلقونا فى المنتصف لا حسب هواهم.
وتمارس الصين الدبلوماسية الشعبية الناعمة، فعندما يزورها «كيسنجر» كمواطن أمريكى ليس له صفة رسمية حالياً فإنها تستقبله استقبالاً حافلاً يفوق ما تفعله فى وجود زائر رسمى حالى ويصفه الرئيس شى بأنه صديق قديم، وهو ما يعد لقباً يعبر عن الاعتزاز بهذا الصديق، و«كيسنجر» بالذات يتمتع بتأثير الهالة والهيبة التاريخية.
كما استقبل «شى» من قبل إيلون ماسك وبيل جيتس وهو ما يراه المراقبون سياسة صينية تستهدف التأثير على الرأى العام وكسبه لصالح العلاقات بين البلدين، ويذكرنا ذلك بما فعله الجنرال «جياب» أسطورة فيتنام من قبل عندما كسب الحرب بمخاطبة الرأى العام الأمريكى مباشرة.
صار «كيسنجر» أيقونة الدبلوماسية فى الزمن المعاصر، تفوق بأفعاله على ما فعله أقرانه عظماء الدبلوماسية الأقدم، ميترنخ وتاليران وكاسلر الذين صاغوا خريطة أوروبا الحديثة فى القرن التاسع عشر، فقد انفرد «كيسنجر» بأكبر حصة من صياغة خريطة العالم الحالى بقواه العظمى وأسلحته النووية.