د. حسين محمود يكتب: الاستسهال آفة البحث العلمي في مصر
بيان
لا أود أن أشارك أحدا فيما سأقوله هنا، ذلك أن الحوار في هذا الموضوع ينقطع دائما وينتهي بغير نتيجة، ولكنني أكتب لكي أعبر عن مخاوف مبررة على واقع البحوث العلمية في مصر الآن، وعلى مستقبلها.
عبر سنوات طويلة قضيتها في الجامعة لمست فيها عن قرب كيف يختار الباحثون الشبان موضوعات رسائلهم العلمية، وكيف تغيب القيمة العلمية والأصالة عند اختيار البحث، وتسيطر فقط سهولة الانتهاء من الرسالة ومناقشتها والحصول على الدرجة في أسرع وقت ممكن. وكثير من موضوعات البحث الهامة والتي يحتاجها المجتمع تم تجنيبها بحجة أن المراجع فيها قليلة، والإقبال على موضوعات قتلت بحثا ونشر عنها الكثير وإمكانية النسخ واللصق لتدبيج نص علمي يحصل به الباحث على درجته العلمية.
وكنت أنصح أولئك دائما بألا يخافوا من قلة المراجع، وأرى أنه كلما قلت المراجع كلما كان ذلك أفضل، لأن إنتاجك العلمي في هذه الحالة سوف يتحول تلقائيا إلى مرجع، ويجعل منك منتجا للمعرفة وليس مستغلا لمعارف من سبقوك دون أن يشكل عملك أية إضافة.
ولا أكتفي بتوجيه الاتهام للباحثين الشبان، فهم في النهاية مجبورون على الانتهاء من رسائلهم خوفا من عدم الترقي، وربما أيضا خوفا من الفصل من الجامعة، فالقواعد التي تحكم البحث العلمي في الجامعات المصرية لا تشجع على البحث الجديد الجيد الذي يمثل إضافة للعلم، فمن ضمن هذه الشروط ضرورة أن ينتهي الباحث من رسالته في زمن محدد، دون النظر إلى ما قد تتطلبه طبيعة البحث من مدد أطول، مثل التجارب التي يشترط العلم أن تستمر مدة معينة، ويضطر الباحث في النهاية إلى “ضرب” بعض النتائج حتى يلبي هذا الشرط. إن باحثا اختار موضوعا يبحث فيه فما يضيرنا إن لم ينته منه في المهلة الزمنية الجبرية التي تضعها له، بل ما يضيرك إن لم ينته منه أصلا؟ يظل الموضوع موضوعه ولا يتكرر مع باحث غيره وإلا فقد الابتكار المبتغى من البحث العلمي. الخطورة الشديدة هو أن ندخل الباحث “السجن”، دون أي أمل في الهروب من هذا السجن. وأعني بالسجن هنا “سجن الجهل”، لأن الباحث إن لم يستطع الإجابة على سؤال بحثه فإن لن يستطيع الإجابة على أي سؤال غيره. سجن المهلة الزمنية المعطاة للباحثين هو سجن الجهل الذي نحبسه فيه، ليس وحده، بل أيضا التلاميذ الذين سيتتلمذون عليه في مستقبله العلمي الأسير.
ومن قواعد البحث العلمي غير المفهومة في مصر هو ضرورة أن يحصل الباحث على شهادة إتقان اللغة الإنجليزية مهما كان تخصصه، حتى ولو كان متخصصا في اللغة العربية. من الملاحظات المؤلمة في مسارات التعليم العالي في مصر ما ورثه طلاب الجامعة من التعليم ما قبل الجامعي ونقلوه إلى مراحل البكالوريوس والدراسات العليا عدم قدرتهم على قراءة نص باللغة العربية (تصل نسبة العاجزين عن قراءة نص باللغة العربية بين طلاب الجامعة تسعة عشر من كل عشرين طالبا وهو عدد مرشح للزيادة بعد تضاؤل الاهتمام باللغة العربية في مرحلة التعليم قبل الجامعي وزيادة المقبلين على الشهادات الأجنبية وهم داخل مصر)، والحقيقة الملموسة أن هؤلاء الطلاب عاجزون أيضا عن قراءة نص باللغة الإنجليزية رغم إتقانهم التواصل الشفهي بهذه اللغة. ولا داعي لتأكيد ما هو بديهي، وهو أن النص، أي ما يكتبه الباحث، في أي تخصص، من أطروحة، هو ما يعطي للإنسانية وللحضارة تراثا علميا، والبحث علمي دون كتابة كأنه لم يكن. ويترتب على ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم تصبح “أدبيات” البحث العلمي المنسوبة لجامعاتنا ضعيفة وتعاني من انتشارها الدولي (وليس من نشرها الدولي).
وفي هذا الصدد أرجو البحث في مقترحين هامين لتنظيم البحث العلمي في مصر: أولهما إطلاق المهلة الزمنية اللازمة للانتهاء من البحث، وثانيهما اشتراط أن يكتب البحث بلغة عربية سليمة، إلى جانب النسخة الإنجليزية أو بأية لغة بحث أخرى لازمة، على أن يهتم علماء اللغة العربية بتطوير اللغة وقبول التجديد فيها بما يوفي باحتياجات العصر والعلم والتكنولوجيا.
وأعود لآفة الاستسهال وأذكر خبرة شخصية في مجال البحث الأدبي واستخدام نظريات التحليل النفسي في الدراسات الأدبية، والتي تعتمد على ما أنتجه فرويد من نظريات، وعلى التداخل الذي استشرى ما بين التحليل النفسي والنقد والأدبي، حتى بدا لي من قراءة بعض الرسائل العلمية والأوراق البحثية أن الناقد الأدبي يرتدي البالطو الأبيض للأطباء وقد أجلس الأعمال الأدبية التي يدرسها على الشيز لونج وراح يفحصها إكلينيكيا ويستخرج النتائج التشخيصية، وهو في رأيي نوع من الاستسهال في البحث والدراسة يمثل خطورة شديدة وخاصة في مجال الأدب. رغم أن التحليل النفسي مات ودفن من عشرات السنوات.
والذي أوقعنا في اللبس هو ما كتبه فرويد من أن الكتاب هم رواد التحليل النفسي، وأفضل حلفائها. “ربما نستمد من نفس المصادر، ونعمل على نفس المادة (الإنسان بالتعبير الأدبي و”الشخص” بالتعبير النفسي)، كل واحد منا بطريقة مختلفة؛ ويبدو أن مصادفة النتائج تشكل ضمانًا بأننا قد عملنا بشكل صحيح، وبالتالي هناك تضامن بين التحليل النفسي والأدب، مع الانتباه جيدا لاختلاف الأساليب، واختلاف المناهج في العمل على نفس الإنسان/الشخص، الشعراء يرفعون شأنه عاليا إلى السماء، والمحللون النفسيون ينزلونه من عليائه.
وهكذا يتحول التضامن في نتائج البحوث إلى تشابه صارخ وخطير. لا يقتصر التحليل النفسي على الاستيلاء على بعض الأساطير، مثل أساطير أوديب ونرجس، والتي يتوسطها أيضًا الفرز الأدبي، الذي يحول الأسطورة إلى عمل أدبي؛ ولكن لا ينبغي لنا أن نتجاهل تعبيرا يصف الأدب بأنه “تعمق تدريجي واستعادة فنية لاحقة”، لأن الأدب – كما يلاحظ هيلمان – يتميز بالشكل، وطريقة العرض. إن هناك مسافة لغوية محددة تفصل بين الأدب والتحليل النفسي، وتضيق هذه المسافة في كيفية استخدام اللغة وتكوينها عندما يتم الاعتراف بأن الوصف في علم النفس لا يمكنه أن يتجاهل الصور البلاغية للأدب. هل سيكون التحليل النفسي شكلاً آخر من أشكال الأدب؟
ولتوضيح الفروق الكبرى بين الأدب والتحليل النفسي ما قرأته مؤخرا حول تعبير ذكر في عنوان رسالة ماجيستير مقترح تتحدث عن “الإزاحة”، وهي ترجمة خاطئة للمصطلح الإنجليزي displacement والألماني Verschiebung والمقصود بها النقل أو حتى الانتقال، الذي يميل بالمصطلح نحو التحريك، تماما مثلما نتحرك من مكان لآخر، أو نتنقل من بيت إلى بيت جديد، وفي علم النفس قدم فرويد هذا المصطلح لوصف العملية التي يتم فيها نقل الطاقة النفسية من كائن إلى آخر، وفقا لعلاقات السلطة، فمن سلطة المدير أن يعنفني ولا أرد، ومن سلطتي أن أنقل هذا التعنيف إلى الخاضعين لسلطتي. أما في علم اللغة، فيشير التحريك إلى قدرة كلمة أو عبارة على التحرك من موضع بنائي في جملة إلى موضع آخر دون أن يؤثر ذلك على معنى الجملة. وإني أرجو من الزملاء العاملين في حقل الدراسات الإنسانية باللغة العربية أن يأخذوا بمعنى النقل أو الانتقال أو التحريك والابتعاد عن الإزاحة التي تحمل مدلولات أخرى وخاصة في علوم الرياضيات والفيزياء.
لكن نقاد الأدب عموما لم يستسيغوا الهجين الذي يجمع التحليل النفسي بالنظرية الأدبية، بل أكدوا ويؤكدون على حدود وقيود الاستسهال في جمع نظم فلسفية مختلفة في نظام واحد، والرأي الغالب لديهم أن التحليل النفسي أظهر مهارات تكيفية ممتازة، حيث دخل في حوار مع النظريات النقدية مثل البنيوية والماركسية وما بعد البنيوية والدراسات الجنسانية ونظريات الاستقبال. ومع ذلك، بنفس الطريقة، تتحول هذه القوة إلى ضعف عندما نعتبر أن مثل هذا الخلط هو الذي شجع على ممارسة “الاستغلال السيء” للتحليل النفسي. ما عليك إلا أن تأخذ بالعالم النفسي لاكان، ودعه يتفاعل مع جرامشي وبارث وليفي شتراوس لكي يصبح النقد جاهزا وجذابًا وعصريًا.
على أن قيمة العمل الفني ليس في نمذجته، بل في انطلاقه بلا حدود، ولا يشكل تفسير الحلم فيه أية قيمة أدبية إضافية، ومنذ الستينيات أصبح تفسير (نقد) العمل الأدبي يعمل بمبادئ جديدة هي: أ) احترام مجمل النص ؛ ب) تحليل ما هو ضمني، وليس فك رموز أو اكتشاف سر؛ ج) كسر عدم التجانس، والتشابك بين طرق التفكير غير المتوافقة التي تؤدي حتما إلى نوع من التلفيق.
وهكذا لم يتبق للتحليل النفسي فيما يتعلق بالأدب سوى سطح النص بشرط أن يكون سطح النص كثيفا، يعمل عليه المحلل النفسي بأدواته العلمية، ولكن الناقد الأدبي يعمل عليه بأدواته النقدية.
ولابد أن نشير هنا إلى أن المصطلحات المشتركة المستخدمة في النقد الأدبي وعلم النفس مختلفة المعنى والقصد، مثل “النموذج الأولي” أو “الرمز”، والخلط في المعاني يمكن أن يؤدي إلى نتائج وخيمة. والعامل الحاسم هنا هوالتفريق في فهم الصورة وطبيعتها، وهل مشتقة من الخبرة النفسية أم هي من ابتكار خارج عن إطار الخبرة، وجودها مجرد ويمكنه أن يعيش خارج نطاق النص الأدبي وخارج إطار التجربة المرضية في علم النفس. إن قوة الشخصية في علم النفس وفي الأدب يكمن في قدرتها على التحول، ولكن الفارق الأساسي هو تحول الشخصية لمحو سماتها المرضية في التحليل النفسي، ولتطويرها في الأدب. وفي التحليل النفسي يتوقف في نقطة معينة تحول الصورة، فيما يعني جمود الصورة في الأدب الوصول إلى حالة من الفراغ الرمزي وتصبح المعاني حرفية.
اقرأ أيضا:
– لواء دكتور/ سمير فرج يكتب: مصر والبريكس
– عاطف عبد الغنى يكتب: شكل وطريقة وتوقيت إعلان الجمهورية الجديدة