رفعت رشاد يكتب: موت المثقف
يثير الكاتب الكبير رفعت رشاد قضية جلية تتعلق بانحسار دور الثقافة والمثقف، فى عصر “التسطيح”، والضحالة، وثقافة “السوشيال ميديا”، وكما عهدناه يلقى الكاتب حجر كبير فى المياه الآسنة، فيحركها، ويشغل قرائه بالقضايا التى يطرحها، المقل منشور فى صحيفة “الوطن” ونعيد هنا نشره.
لا نهتم كثيراً بوجود المثقف بيننا، وربما لا ندرى إن كان هناك من بقى منهم أو رحلوا جميعاً. فى الغرب يهتمون باختفاء أحدهم أو بعضهم فيثيرون القضية، اهتم فوكو بموت الإنسان واهتم فوكوياما بموت أو نهاية التاريخ، اهتم فيريليو بنهاية أو موت الجغرافيا كما اهتم رولان بارت بموت المؤلف أو الكاتب.
ربما لا نهتم بوجود أو موت المثقف لأن دور المثقف لم يعد ملموساً. يحاول بعضهم إثبات وجوده لكن الواقع والحقيقة يؤكدان موت المثقف أو على الأقل عدم وجوده وبصورة واضحة عدم تأثيره.
من المثقف الذى نتحدث عنه؟
المثقف ظهر حديثاً فى العصور القريبة، ظهر كتعريف للكلمة، لكنه كان موجوداً فى العصور السابقة، فما كبار الفلاسفة والمفكرين والعلماء إلا مثقفون كل بصورته وشكله وطريقته وما أبداه.
المثقف موجود فى كل الحضارات وفى كل عصور التمدن وهو يختفى باختفاء البيئة التى تتيح له أن ينمو ويبدع، فلا مثقف إلا فى بيئة حاضنة يتيح له مناخها وهواؤها النمو والتفكير والإبداع، لذلك وجد المثقف بكثافة فى عصور النهضة والتنوير فى أوروبا حيث شهدت القارة العجوز طفرة هائلة فى كل مجالات التفكير والفلسفة والعلوم، وكل ذاك كان وراءه المثقف.
المثقف كصفة تتغير بتغير الزمن والمجتمع والظروف، ومفهوم المثقف بالنسبة للناس فى كل مجتمع يختلف ويحمل دلالات لا تتشابه.
والمثقف يتأثر بثقافة مجتمعه السابقة عليه والجماعية فى نفس الوقت وبالتالى فهو له هوية تنتقل معه حيثما يذهب.
وقد يكون المثقف أكثر قدرة فيحيط بما حوله من ثقافات إقليمية وعالمية ويقوم المثقف المتمكن بصهر ما يتأثر به ويؤثر فيه لكى يخرج ما نراه إبداعاً ثقافياً.
يحدد المفكر الفلسطينى إدوارد سعيد مفهوم المثقف: «المتمتع بالصفة التمثيلية ويمثل بوضوح وجهة نظر ذات طبيعة ما ويعبر بجلاء لجمهوره عن تلك الأفكار التى يمثلها رغم كل أنواع العوائق».
أما المفكر الإيطالى الماركسى جرامشى وهو أفضل من اهتم بمسألة المثقف فقد قسم المثقفين إلى نوعين، الأول التقليدى الذى يواصل فعل الأشياء نفسها تكراراً مثل المدرس والموظف ويمارس ذلك من جيل إلى جيل.
والآخر المثقف العضوى فهو صاحب العقل والفكر المرتبط بمجتمعه وقضاياه بصورة متداخلة، فالمثقف فى نظره يمارس دوراً جوهرياً فى البناء الاجتماعى ويرى أن هذا المثقف يعيش فى حالة نضال متواصلة لتحقيق ما يرونه فى صالح المجتمع.
ويرى بعض المفكرين أن المثقف العضوى الذى قال به «جرامشى» يندر وجوده فى أى مجتمع وهو صورة مثالية يصعب تصورها فى الواقع.
هل نجد المثقف حولنا؟
الصورة لدينا مختلفة عما فى الغرب بشكل عام، فمثقفنا مستغرق فى قضاياه ومشاكله الشخصية والمحلية، مثقف المدينة غير مثقف الريف، ومثقف النخبة غير مثقف العمال، ووصف البعض المثقفين وصنفهم إلى ما يشبه مهناً أخرى قاصداً أنهم ابتعدوا عن دورهم كمثقفين، فيرى أن بعضهم يجيد السير فى الركاب ويمنح ما يتميز به لمن يقبض على زمام الأمور، ومنهم من لا يمارس التفكير لكنه يروج لفكر الآخرين ومنهم من أصابه الإحباط فعزل نفسه عن مجريات الحياة.
حمل المثقف على مدى العصور راية التنوير فهو مبشر ومشرع ومفكر ومعترض، لكن الوضع اختلف فقد تواضع دور المثقف وانحسر فى الجدال العقائدى وتخلف عن اللحاق بنظريات الفكر والفلسفة المتسارعة فى العالم وبالتالى لا يقدم للمجتمع ما ينتظر منه.