رفعت رشاد يكتب: عقوق الأبناء
نقتبس من المقال التالى للكاتب الكبير رفعت رشاد عبارة يقول فيه: “هى قصة تتكرر كثيراً ليس فى مجتمعنا فحسب ولكن فى كل المجتمعات”، ولا نريد أن نفسد عليكم متعة القصة، وطلاوة القص، اعرفوا التفاصيل من المقال المنشور بصحيفة “الوطن” وهذا نصه:
كنت فى محطة علوية لمترو الأنفاق، أتجه إلى رصيف القطار فوجدت شيخاً غير قادر على السير ولا يعرف فى أى اتجاه يسير، فلما اقتربت منه وجدته يكاد لا يرى كما أن ذراعه مشلولة، فسألته: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إلى محطة التحرير فقلت: هيا نسِر معاً فمن المصادفات أن أكون ذاهباً فى نفس الاتجاه.
تمتم الرجل بكلمات حمد لله أن وجد شخصاً يساعده فى رحلته.
فى المترو بدأ يحكى عن مشكلاته مع أولاده، مدح ابنتيه المتزوجتين قال إن كل واحدة تستضيفه نصف الأسبوع وتتكفل بكل ما يوفر له الراحة، تقومان بإعداد طعامه البسيط بدون تأخير، كما تعتنيان بنظافته واستحمامه كل واحدة بنفسها.
عندما بدأ يتحدث عن ابنه توقف وبدأت الدموع تذرف من عينيه، قال لكن الولد ليس مثل شقيقتيه، هو متزوج وكان يعيش معى فى شقتى القديمة التى عشنا فيها طوال السنين ونتحمل إيجارها البسيط، لكنه يتذمر دائماً ويشكو لشقيقتيه بأنه لا يطيق البقاء معى، لأنه يخشى على زوجته من نظراتى!! وواصل الرجل ودموعه صارت غزيرة: قلت له يا بنى أنا لا أرى يدى فكيف أرى زوجتك، كما أننى أبٌ لها، لكنه أصر على مغادرة الشقة ولم يطاوعنى قلبى فأعطيته ما يستطيع به أن يدفع مقدمة لشقة إيجار جديد.
الحق أننى كرهت الحياة معه لكنى لا أحب الحياة وحدى فى شقة لا أعرف كيف أتحرك فيها كما أن إحدى ذراعىّ شُلت بعد جلطة أصابت مخى.
كان الرجل يتوه فى الكلام معى فيتنقل من حكاية إلى أخرى بعيدة تماماً عما كان يحكى ويعود مرة أخرى للحكاية الأولى، كان يجمع بين الحكايات خيط المأساة والألم الذى يحسه.
واصل: عاتبت ابنى على إهماله لى، فكان رده: لو أنت مكانى، هل كنت توافق على أن أقيم مع زوجتك؟، اندهشت من السؤال، قلت أنا أبوك وغير مقبول أن تفكر فىّ بهذه الطريقة، لكنه رفض البقاء معى ورعايتى فى حالتى هذه.
وانطلق الرجل يدعو: يا رب لا تترك أحداً فى حاجة إلى آخرين حتى لأبنائهم الذين أنجبوهم وربّوهم.
استكملت الرحلة مع الرجل بعد أن استبدلنا القطار بآخر إلى شبرا واستكمل حديثه عن عقوق ابنه، قال إنه لا يزورنى ولكنه يطلب منى المال دائماً وأنا مستور والحمد لله لكنى غير قادر على الإنفاق عليه وعلى أسرته وهو يضغط علىّ وبقدر ما أستطيع أساعده ربما يلين قلبه تجاهى ويعاملنى معاملة طيبة، لكن يبدو أن ذلك لن يحدث أبداً.
وصلنا إلى المحطة التى سينزل فيها صديقى المصدوم فى ابنه، فنزل بصحبة راكب وقور ليسلمه لابنته التى كانت فى انتظاره.
وسرحت طويلاً فى قصته، هى قصة تتكرر كثيراً ليس فى مجتمعنا فحسب ولكن فى كل المجتمعات، قصة أب يسعد بإنجاب طفل ويرعاه ويبذل له الغالى والثمين حتى يترعرع ويصير شاباً ويفرح عندما ينهى دراسته ويفرح عندما يتزوج وينجب أبناء وكل ذلك فى المراحل التى ينفق فيها الأب على ابنه أو أبنائه ولكن تتحول الأمور بعد أن يملك الأبناء زمام أنفسهم ويملكون المال، فتظهر معادن أخلاقهم الحقيقية تجاه الآباء ويظهر عقوقهم. وتردد فى أذنى صوت الرجل وهو يقول: اللهم لا تحوجنا لأحد حتى أولادنا.