رفعت رشاد يكتب: عمائر الأموات
ليست مقابر، ولكنها تاريخ، يحمل رفات بشر عاشوا على هذه الأرض وعمروها، أهلنا الآباء والأجداد، يثير الكاتب الكبير رفعت رشاد فى هذا المقال، أزمة تشغل قطاعا عريضا من المصريين، وتشوش عليهم بالهم، المقال منشور فى صحيفة “الوطن” وهذا نصه:
لم نكن لنعرف تاريخنا وحضارتنا لو لم نشاهد معابد الفراعنة وجباناتهم. نباهى بجثثهم أو مومياواتهم العالم، لأنها عاشت آلاف السنين محتفظة بحالتها ولم تتأثر بما مر عليها من زمن. ندرك أن أحفاداً لنا سيأتون بعد سنين طويلة ليعرفوا من خلال مقابرنا تاريخنا الحقيقى المكتوب بالحجر والمتسق مع عصره المعمارى!
زادت الهجمة على المناطق القديمة فى القاهرة لهدم المقابر وهى مسألة لا يعرف أحد مغزاها.
إذا كان الأمر يرتبط ببناء الكبارى فرئيس الجمهورية شكَّل لجنة برئاسة رئيس الحكومة لبحث تفاصيل هذه المقابر وكيفية التعامل معها، بل أمر بإنشاء مدافن للخالدين على غرار ما يحدث فى دول العالم المتحضرة، ومنها مصر القديمة حيث جبانات الملوك والنبلاء، فلماذا الهدم العشوائى لمقابر شخصيات بارزة فى تاريخنا؟.
المقاولون يتعاملون مع المقابر الأثرية باعتبارها «رتش» يتم تحميله على عربات لتلقى به فى مناطق نائية فى الجبل، ولا يدرك المقاول قيمة ما يرميه وأن بناء المقابر كان وما زال فناً معمارياً حرص عليه شخصيات مصر الحديثة والوسطى والقديمة، وهو ما شكَّل فى مجموعه تاريخ مصر وحضارتها.
فى باريس يمكنك أن تجد عمارة عمرها يزيد قليلاً على المائة عام، ومع ذلك تحتفظ برونقها ومتانتها، لأنهم حريصون على الحفاظ على فنونهم المعمارية التى شهدت تاريخهم وعاش فيها أدباء وفنانون وسياسيون وأشخاص عاديون أيضاً.
فى روسيا قصة مشهورة تروى، كانوا فى موسكو يوسعون شارعاً محورياً ووجدوا أن عمارة تاريخية كبيرة تعترض الشارع ورأوا أن هدمها يهدر أثراً مهماً كما أن تركها يلغى توسعة الشارع.
عرضوا الأمر على الزعيم السوفيتى ستالين فأمر بنقل العمارة!! فى البداية كانت الدهشة سيدة الموقف، لكن بعد قليل انخرط المهندسون يدرسون كيفية نقل العمارة وتوصلوا إلى طريقة لنقل العمارة بحالها وحالتها بدون أن تتأثر.
طلبوا من السكان الخروج من المبنى تاركين أمتعتهم وكل ما يخصهم ولينتظروا حتى يتم نقل العمارة. وبالفعل نقلت العمارة وأزيحت من موقعها إلى الخلف بدون أن يتحطم كوب زجاجى أو تسقط ملعقة فى مطبخ أحدهم. رأيت تلك العمارة بنفسى خلال زيارة لموسكو.
أقدر تمام التقدير صحوة أعضاء مجلس النواب وما قدموه من أسئلة وطلبات إحاطة للحكومة بشأن هدم المقابر، لقد وثَّقوا أوراقهم ودعموها بالمنطق والحجة والموضوعية وهو جهد مشكور.
أطالب بتحرك سريع لوقف هذا الهدم العشوائى غير المبرر والحفاظ على تاريخ لم يسجل على ورق لكنه سيعيش لكى يكون جزءاً من حضارتنا المعاصرة تعرفه أجيال لم تولد بعد.