رفعت رشاد يكتب: مشاهد من المترو
مترو الأنفاق ليس مجرد وسيلة مواصلات عند الكاتب الكبير رفعت رشاد، لكنه مجتمع له سماته وخصائصه، تستطيع أن تتعرف عليه من مشاهد جمعها الكاتب فى المساحة التالية، المقال منشور فى صحيفة “الوطن” ونعيد هنا نشره:
أنا متراوى أصلى. أستقل مترو الأنفاق وأتعامل معه منذ بدأ يجرى تحت أرض القاهرة وفوقها.
ما يزيد على 35 عاماً عرفت خلالها قطارات الخطوط الثلاثة وتعاملت معها.
يزيد عمر مترو الأنفاق بالقاهرة على أعمار أكثر من جيل ولد ليجد المترو، ومنهم من يفضل ركوبه أكثر من أى مواصلات أخرى بما فيها السيارة الخاصة.
خلال تلك السنوات تشكل مجتمع المترو وصارت له تقاليد وعادات يتعامل بها الركاب بدءاً من قطع التذاكر وحتى التعامل مع الباعة والمتسولين.
منذ أيام لحقت بقطار خط شبرا وتصادف أنه قطار حديث يتمتع بتكييف عالى التبريد.
بمجرد استقرارى فى مكانى بالعربة وقف بجانبى شخص خمسينى سارع بالاتصال بصديق له وعلى وجهه ابتسامة لا تخفى، وعندما رد صديقه قال له: «ياريتك كنت جيت.. أنا ركبت المترو المكيف».. ودار بينهما حديث فهمت منه أن الناس تضبط مواعيد ركوبها المترو على مواعيد وصول قطار مكيف، خاصة فى فترة ارتفاع درجة الحرارة خلال الأسابيع الماضية.
كانت فرحته واضحة رغم الزحام ورغم وقوفه طوال المسافة حتى نزل.
وفى محطة السادات لاحظت ارتفاع درجة الحرارة، ووجدت أن كل مراوح المحطة معطلة على جانبى الرصيف. سألت أحد العاملين بالمترو، قال: تخفيف أحمال، يوجد شخص يغلق كل المراوح مرة واحدة ويفتح بعضها مرة واحدة لتوفير الكهرباء!!
كان شاب وفتاة يقفان معاً وبعد أن خلى مقعد جلست الفتاة وكانت بجوارها سيدة وجدت أن حجمهما لا يشغل كل حيز المقعد، فدعتها الفتاة لكى تطلب من صديقها الجلوس، رحب الشاب، وبعدما جلس وجدت على وجهه ابتسامة عريضة بعدما نال المراد من رب العباد وجلس على مقعد بالمترو.
كنت أقرأ كتاباً وكان الراكب الجالس بجوارى يقرأ فى المصحف، وفجأة انشقت العربة عن شاب ذى صوت جهورى حاد جداً لا تستطيع منه فكاكاً ولا بد أن يتشتت انتباهك، قام بعرض بضاعته من الأحزمة التى انتقى كلمات سجعية لترويجها، وربط أحدها فى الحديد الذى يمسك فيه الناس وتعلق وأرجح نفسه للتأكيد على متانة الحزام، وبينما يصرخ فى آذاننا جاءت امرأة لتبيع بضاعة أخرى لكنها وقفت حتى ينتهى بائع الأحزمة من استعراضه احتراماً للعلاقة بينهما وتقديراً لبائع زميل، ولم تكد المرأة تبيع بضاعتها حتى جاءت متسولة يحفظ وجهها كل ركاب المترو، لكنها رددت نفس كلام التسول؛ قالت إنها مريضة بالسرطان وتحتاج إلى حقنة وفرت من ثمنها 900 جنيه وتبقى 300 جنيه تتمنى لو أن ركاب المترو جمعوها ولو كل واحد دفع جنيهاً.
وبينما نشاهد ونتعذب بمسرحية الباعة والمتسولين وبينما مذيعة محترمة من جهاز المترو تحذر من التعامل مع بائع أو متسول، كان بعض رجال الشرطة قد طلبوا توقف المترو بضع دقائق يبحثون خلالها عن الباعة والمتسولين، وفجأة اندست مريضة السرطان الملعونة تحت مقاعد الركاب وتوسلت لإخفائها، لكنى سارعت باستدعاء الشرطة فقبضوا عليها وحاولت التملص لكن الشرطى دفعها أمامه.
اللافت أننى فى اليوم التالى وجدتها تكرر ادعاءها المرض وتتمنى لو أن الركاب جمعوا لها ثمن الحقنة.
من مشاهد الاستفزاز فى المترو تنطع بعض الشباب ذوى الأجسام الضخمة ووقوفهم فى مدخل باب العربة، تجد على الجانبين نطعين يسدان الباب أمام الركاب، واللافت أن هؤلاء لا يتأثرون ولا يصيبهم الحرج لحاجة الركاب لاستخدام الباب، ويتلذذون باستخدام الموبايل، وتأتى المحطة وراء الأخرى ولا يتحرك هؤلاء ولا يتركون الباب، وهؤلاء نموذج سيئ للشباب المتنطع، وأذكر قصصاً عن الزعيم السوفيتى ستالين الذى كان يتابع بنفسه أحوال المترو وتكرر تدخله وحبسه بعض المتنطعين الذين يسيئون استغلال عربات المترو بأى شكل حتى انضبط مترو موسكو وصار نموذجاً للنظام.
يمكن لراكب المترو أن يدون ملاحظات عديدة وأن يكتب قصصاً عما يدور داخل هذا المرفق الذى صار مجتمعاً له سماته المميزة وصار ركابه مجتمعاً لهم تقاليدهم التى يتعاملون بها.