لواء دكتور/ سمير فرج يكتب: ومازال لتدمير المدمرة إيلات أثر على الفكر العسكري البحري
بيان
ومازال إغراق المدمرة إيلات أمام سواحل بورسعيد حدثًا رئيسيًا ومؤثرًا، رغم مرور كل هذه السنوات ونحن نحتفل هذه الأيام بمرور 50 عامًا على حرب أكتوبر المجيدة.. هذا الانتصار الذي حقق لمصر وشعبها وجيشها أعظم نصر في العصر الحديث، إلا أن عملية إغراق المدمرة إيلات أمام سواحل بورسعيد يوم 21 أكتوبر عام 1967، حيث تقبع الآن في المياه الإقليمية لشواطئ بورسعيد في قاع البحر المتوسط، لتشهد على عظمة رجال البحرية المصرية، خاصة أنه بعد أشهر قليلة من هزيمة 67 كانت هذه العملية العسكرية، غيرت مفاهيم التسليح وأساليب القتال البحرى في العالم كله.
وأبدأ القصة من النهاية، حين كنت في زيارة إلى تايوان منذ عامين تقريبًا للمشاركة في مؤتمر دولى عن مكافحة الإرهاب في منطقة جنوب شرق آسيا، عدد من القادة العسكريين والخبراء في مجالات مكافحة الإرهاب، من 35 دولة، معظمهم من دول الناتو. تضمن برنامج المؤتمر في يومه الثانى زيارة لأحد المصانع الحربية في تايوان، المتخصصة في صناعة الزوارق البحرية.. بدأت تلك الزيارة في قاعة للمحاضرات، استمعنا خلالها إلى تقديم مدير المصنع لنفسه ولنشاط مصنعه قبل زيارة خطوط الإنتاج والتشغيل. عندما وصلنا إلى المصنع رأيت مبانى ضخمة، كبيرة، على أعلى مستوى من التكنولوجيا، حتى في طريقة تشغيل البوابات، والأمن، وقاعة المحاضرات، وحتى تقديم المطبوعات الخاصة بالمصنع، ومعها لوح إلكترونى، أو «Tablet» هدية عليه كل المعلومات الفنية والإدارية والتنظيمية عن المصنع.
ولأننى من المؤمنين بالمبدأ الإنجليزى القائل بأن الانطباع الأول يظل هو الانطباع الأخير، أو «The first impression is the last impression»، فالحقيقة إن انطباعى عن المصنع لم يتغير، بعدما بدأ حديث مديره عن أنه تم إنشاؤه عام 1960 كمشروع أمريكى- تايوانى مشترك، ينقسم هيكل ملكيته إلى نسبة 70% للأمريكان، و30% لتايوان، ويعتبر الآن هو المصنع الذي ينتج جميع الزوارق البحرية للجيش الأمريكى، ابتداءً من زوارق الطوربيد، وزوارق الصواريخ، وزوارق حرس السواحل، وزوارق مراقبة السواحل والإنقاذ.. وغيرها من نحو عشرة أنواع مختلفة من الزوارق التي تفى باحتياجات القوات البحرية الأمريكية وحرس السواحل.
وأضاف مدير مجمع المصانع أن الإنتاج بدأ عام 1960، ولكنه توقف فجأة في نهاية عام 67، بعدما مُنى الفكر العسكرى القتالى البحرى بصدمة كبيرة أَخلَّتْ بجميع موازينه، عندما نجح المصريون في إغراق أكبر قطعة بحرية في الأسطول الإسرائيلى، وهى المدمرة إيلات، باستخدام 4 لانشات صواريخ على ساحل البحر المتوسط… هذه الصدمة التي أجبرت الترسانات البحرية حول العالم على التوقف عن الإنتاج، لدراسة نجاح المصريين، والبحث في أسباب فشل البحرية الإسرائيلية لتطوير الأسلحة البحرية.
واستطرد السيد المدير قائلًا إن الإنتاج توقف تمامًا لمدة عام تقريبًا، لاستخلاص الدروس المستفادة من هذه المعركة التي انتهت إلى إعادة تصميم الزوارق الحربية لتكون أقل حجمًا وأكثر سرعة، مع زيادة حجم التسليح وزيادة مدى وإمكانيات الرادارات البحرية لهذه الزوارق. وكانت إضافة كل عامل مما سبق تتطلب إعادة تصميم الزورق من جديد، حتى ظهرت بعدها بعام أشكال جديدة من الزوارق الحربية، هي التي نراها اليوم.. وتبدأ القصة يوم 21 أكتوبر 1967.. أي بعد 4 شهور من هزيمة يونيو التي نالت من القوات المسلحة المصرية ماديًا ومعنويًا، وسرت بعدها أسطورة الجيش الإسرائيلى الذي لا يقهر… واليوم، لن أسطر تلك البطولة على لسان أبطالها من البحرية المصرية، وإنما على لسان قائد المدمرة الإسرائيلية إيلات، المقدم بحرى إسحاق شوشان، الذي سطرها في كتاب بعنوان «الرحلة الأخيرة للمدمرة إيلات»، محاولًا فيه أن ينفى عن نفسه أي مسؤولية عن إغراق درة الأسطول البحرى الإسرائيلى أمام سواحل بورسعيد… فقد كتب: «صعدت فوق سطح المدمرة وقت الغروب، ونحن نقترب من بورسعيد، وكانت الرؤية مازالت واضحة، وبدأت بيوت مدينة بورسعيد تضاء، ووقفت أحدق في البحر غير مصدق أننا داخل المياه الإقليمية المصرية، بعد انتصارنا الذي أردى المصريين جثة هامدة، وإذا بعامل الرادار يصرخ فجأة بأن هناك صاروخًا قادمًا من اتجاه بورسعيد.. والحقيقة أنهم كانوا أربعة صواريخ من طراز ستيكس الروسية، التي كانت محمولة على لانشات صاروخية بحرية من طراز كومار، استهدفت الصواريخ جانب المدمرة لتميل أولًا». ويضيف إسحاق شوشان أن «المدمرة غرقت تمامًا بعد ساعتين، بعدما أطلقت عليها الصواريخ الأربعة، بفارق ساعة بين كل صاروخين».
أما تقارير البحرية المصرية فقد ذكرت أنه في غروب يوم 21 أكتوبر 67 ظهر على شاشة الرادار في قيادة القاعدة البحرية ببورسعيد هدف بحرى يقترب من بورسعيد ليدخل المياه الإقليمية للبلاد، ورغم الظروف التي كانت تمر بها البلاد بعد هزيمة 67، إلا أن قائد القاعدة البحرية ببورسعيد أصدر أوامره بالتعامل فورًا مع الهدف، فانطلق اللانش الصاروخى رقم 504، بقيادة النقيب أحمد شاكر ومساعده الملازم أول حسن حسنى، حاملًا الصاروخين الأولين، وبعد إطلاقهما بساعة، أفادت القيادة البحرية في بورسعيد بأن الهدف لايزال ظاهرًا على شاشة الرادار، فأطلقت اللانش الصاروخى رقم 501 حاملًا الصاروخين الثالث والرابع، بقيادة النقيب لطفى جاد الله ومساعده الملازم أول ممدوح نعيم، لتهوى بعدها المدمرة إيلات في قاع البحر المتوسط أمام ساحل بورسعيد.
قتل في هذه العملية البطولية 47 جنديًا إسرائيليًا، طبقًا لسجلات البحرية الإسرائيلية، وألقى المقدم بحرى إسحاق شوشان باللوم على الاستخبارات الإسرائيلية، التي لم يكن لديها علم بنيّة ولا بقدرات البحرية المصرية على إطلاق صواريخها تجاه المدمرة إيلات.. وبعدها، طلبت إسرائيل من الصليب الأحمر السماح لها بانتشال العالقين والغارقين داخل المياه الإقليمية المصرية، وهو ما سمحت لهم به القيادة المصرية، التي لا تتخلى عن شيمها الإنسانية أمام انتصاراتها، لكن ظل حطام المدمرة الإسرائيلية إيلات حتى الآن راقدًا في أعماق المياه أمام شواطئ بورسعيد، لتشهد على عظمة المقاتل المصرى في هذه المعركة التي كانت سببًا في تغيير الكثير من مفاهيم القتال البحرى في العصر الحديث.