تذكروا دوما عروس الجنوب.. سناء محيدلى أول فدائية لبنانية
سردية يكتبها محمد قدرى حلاوة
(١)
التاسع من” إبريل – نيسان” ١٩٨٥.. كانت ساعة” بيج بن ” تشير إلى السادسة مساء بتوقيت ” لندن” الثامنة مساء بتوقيت ” القاهرة”.. أرتدي ملابسي على عجل للحاق بدرس “الفيزياء” بينما صوت ” محمد الأزرق” ينطلق رخيما من إذاعة “البي بي سي” يعلن أخبار المساء.. كانت أخبار الحروب تطغى على العالم – كالمعتاد -…الحرب ” العراقية – الإيرانية”.. الحرب ” السوفيتية – الأفغانية”.. الحرب بين ” الساندينستا – الكونترا” في “نيكارجوا “.. و بالطبع الحرب التي لا تتوقف في ” لبنان “منذ “الحرب الأهلية اللبنانية” التي أندلعت في “إبريل- نيسان” ١٩٧٥.. مرورا بالعدوان الإسرائيلي “يونيو – حزيران “١٩٨٢..ثم بعض حروب العبث بين الفصائل” الفلسطينية” المتناحرة حينا.. والقوات السورية ” حينا آخر.. وسط كل هذا العبث كانت هناك عمليات فدائية متواصلة تتم ضد القوات ” الأمريكية” و” الفرنسية “( التي دخلت لبنان عشية العدوان الإسرائيلي ١٩٨٢).. والقوات ” الإسرائيلية “التي كانت تنسحب على مراحل من الداخل” اللبناني” بعد الخسائر التي تكبدتها مكتفية بوجود عملاء “جيش لبنان الجنوبي” في الجنوب..
خبر صغير حول عملية ” إنتحارية” – هكذا كانت تسميها إذاعة لندن – تمت ضد تجمعا آليا لقوات جيش الإحتلال “الإسرائيلي” عند معبر” جزين “خلفت عددا من القتلى والجرحي في صفوف العدو.. الخبر يبدو إعتياديا لا يثير فضولا أو دهشة.. كما أن الساعة قد تجاوزت الثامنة والثلث و أستاذ “جابر” لا يتسامح في التأخير عن موعد الدرس..
نزلت متباطئ الخطى بغير كثير حماس.. لم أكن أحب مادة” الفيزياء” ولا مصطلحاتها الثقيلة.. لكنني مضطر بالتأكيد لحفظ أشياء كثيرة للظفر بعلامة النجاح..والأكثر تأكيدا أنني لا أتذكر شيئا منها البتة بمجرد الإنتهاء من الإختبار.. على أية حال هي فرصة لتدخين بعض السجائر خلسة من وراء علم الأهل.. فرك بعض أوراق الشجر العطري بين أصابع اليد وقطعة من ” العلكة” ستذهب رائحتها النفاذة.. ربما تعلق رائحتها بالثياب.. هم يعلمون.. لكنها طقوس صارت معتادة ومعاهدة غير مكتوبة ألا يثير أحد منا الأمر.. ” الواد كبر بقى.. خلي السنة دي تعدي على خير.. دي ثانوية عامة ” يتهامسون.. أبتسمت حينها.. يمكنني توفير ثمن ” العلكة” إذا وإحلالها بسيجارة” مارلبورو” “فرت”..
(٢)
في الثامنة عشر من العمر ما إهتماماتك؟.. تشجيع فريقك الكروي؟…شراء ألبوم مطربك المفضل؟.. تجارب التمرد في سن المراهقة؟.. قصة حب جديدة؟.. بنطال ” الجينز” الجديد و” القميص” و ” الحذاء” المرقوم بالماركات العالمية؟.. القراءة؟.. لعب الكرة؟.. ربما فعلت كل هذا وأكثر..أضيف إلى ذلك أنني كنت من عشاق الإذاعة.. من مريدي إذاعة “البي بي سي” و ” مونت كارلو”.. إذاعتنا لا تنشر سوي المرغوب من الأخبار.. وهذا المرغوب ليس شرطا أن يكون هو الحقيقة..
بدأت تظهر بعض التفاصيل عن الحادث ” الإنتحاري” – كما يسمونه -.. سيارة ” بيجو ٥٠٤”.. محملة بنحو ٢٠٠ كجم من المتفجرات.. تقودها فتاة تدعي ” سناء محيدلي” تفجر نفسها في الرتل” الإسرائيلي”..
لعلها فتاة كبيرة في السن.. بالتأكيد بائسة.. ربما مرت بقصة حب فاشلة.. قد تكون دميمة.. أهو التفكك الأسرى؟..أسئلة مرت سريعا على ذهني.. هي عضوة في الحزب “السوري القومي الإجتماعي “.. يسارية تعمل بالسياسة إذا – يصنف البعض الحزب على أنه يميني متطرف -.هؤلاء اليساريون يقول البعض أنهم كفار ملاحدة..ربما هي نموذج قريب “لليلي خالد ” ( المناضلة الفلسطينية التي شاركت في بعض عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من إختطاف الطائرات في سبعينييات القرن الماضي )… لعلها مثل” دلال المغربى ” (العضوة بمنظمة التحرير الفلسطينية التي أستشهدت عام ١٩٧٨ بعد عملية فدائية لخطف حافلة إسرائيلية).. لا تفاصيل أكثر بعد..
ساعات الفجر الأولى تلوح.. كانت ليلة قليلة الحصاد.. لم أذاكر فيها سوي بضع صفحات من ” النصوص”.. هذا الشعر نعم أردده.. أحفظه.. موزون ببراعة.. لكنه لا يلامس نفسي.. لا يتعدى عقلي نافذا إلى روحي.. لا مفر من تقديسه ومدح مواطن بلاغته.. ذهبت إلى ” فرشة” ” عم مدبولي” لشراء جرائد الصباح…كان يجلس القرفصاء مبتسما كالعادة.. جسده الضئيل قد تكوم في جلبابه وبدا من تحته القفطان وقد أعترته بعض الثقوب.. بادرني ضاحكا بمقولته الأثيرة ” محمد أفندي رفعنا العلم… طبعا عايز كله.. حكومة ومعارضة”.. أخذ يجمع عدة جرائد.. كنت قد سمعت أن هناك حديثا ” لهيكل” سينشر بجريدة ” النهار” اللبنانية.. أعتذر ” عم مدبولي” عن وجودها..” دي هتلاقيها عند كشك توزيع الأهرام اللي على الشارع بره.. ولو عايز كتب هيكل كلها روح وسط البلد عند الجدع اللي في وسط البلد اللي سارق إسمي ده.. وقوله مدبولي الأصلي هيرفع عليك قضية” قالها ضاحكا وهو يقبض بيديه على بعض العملات الفضية..
(٣)
الحمد لله.. وجدت الجريدة في كشك “الأهرام” .. لم أضطر للذهاب لوسط البلد لمكتبة ” مدبولي” الكبير كما نصحني ” مدبولي” الصغير.. لم أجد الحديث منشورا.. ربما الأربعاء القادم… أخذت اتصفح الجريدة بلا كثير إهتمام وأنا حانق.. سعرها ضعف سعر الجرائد المصرية..
تجمدت فجأة وتوقفت عن مضغ ساندوتش ” الطعمية” الساخنة.. كانت حواسي كلها مأسورة كأن الزمان قد توقف عن السريان والساعة قد ألقت بعقاربها.. كان بصري مشدوها نحو صورة ” سناء محيدلي”.. هي صغيرة السن مثلي تقريبا.. جميلة الصورة ليست كما ظننت.. طغت صورتها على الخبر.. قمرا يطلع من نافذة الكلمات – كما قال نزار -..هي إبنة قرية ” عنقون” في قضاء ” صيدا”.. ولدت في ١٤ أغسطس ١٩٦٨ .. لم تكمل عامها السابع عشر بعد..
لا تذكر الأنباء شيئا كثيرا عن سيرتها.. حياتها.. يمكن للمرء تخيل بعض تفاصيلها.. تتفتح مداركك على حرب أهلية.. وطن محتل.. بإستطاعتك أن تصبح أحد رفقاء أي أمير من أمراء الحروب..كادرا ناشئا في صحبة سياسي خطيب زاعق مفوه.. تاجرا جشعا يستغل الأزمة.. مواطنا عاديا يؤثر السلامة يكتفى بالدعاء أن تهبط معجزة من السماء تحرر الأرض والوطن.. تهاجر إن واتتك الفرصة وتتغني من بعيد عن الحنين للوطن.. هناك عدة طرق للنجاة.. وطريق واحد للخلود.. فداء الوطن..
أختارت ” سناء” الطريق الصعب.. التضحية.. عمر آخر يطرح ليضاف لعمر الوطن .. فئة نادرة من تقدر على مواجهة هكذا خيار.. مواجهة الموت بدلا من الفرار منه.. تناثر جسدها أشلاء.. رفضت “إسرائيل” تسليم أشلاءها المتبقية ( *) .. (عادت إلى ذهني صورة ” إيهود باراك” وهو يجر جسد ” دلال المغربى ” المسجي من شعرها بعد أن أستشهدت.. ذات الصلف والغطرسة وزرع المزيد من مشاعر الكراهية في الصدور) ..
قالت ” سناء” في وصيتها :
“أحبائي إن الحياة وقفة عز فقط. أنا لم أمت بل حية بينكم أتنقل… أغني… أرقص… أحقق كل آمالي.. كم أنا سعيدة وفرحة بهذه الشهادة التي قدمتها… أرجوكم أقبّل أياديكم فرداً فرداً لا تبكوني… لا تحزنوا عليّ. بل افرحوا اضحكوا… أنا ألآن مزروعة في تراب الجنوب أسقيها من دمي وحبي لها… لا تغضبوا عليّ لأني خرجت من البيت دون إعلامكم… أنا لم أذهب لكي أتزوج ولا لكي أعيش مع أي شخص بل ذهبت للشهادة الشريفة الباسلة السعيدة… وصيتي هي تسميتي عروس الجنوب”..
ربما منذ ذلك اليوم فقط تغيرت إهتمامات ذلك الفتى الذي دنا عمره من الثامنة عشر..
(٤)
ظل طيف ” سناء” يطاردني في الصحو والمنام.. قصصت صورتها محتفظا بها بين دفات كتبي.. كانت إبنة السابعة عشر (*) تقدم في الحقيقة الإجابة عن أسئلة كثيرة.. معنى الوطن..الإنتماء للأرض.. التضحية والفداء.. الإيمان بالقضية.. يقول البعض عنها ” إنتحارية”.. يتقول البعض الآخر بأنها ” إرهابية”..(**) جسدك ما يزال متفرق بينهم يا ” سناء”..- آه لو ترين المطبعين الآن – لعلك الآن ترقدي مطمئنة.. تحرر الوطن بعد إستشهادك بخمسة عشر عاما.. فروا كالجرذان.. تركوا عملاءهم خلفهم.. فأرض الأرز قد طرحت ألف ألف ” سناء”..وكان كفنك فستان فرح زففت به عروسا إلى السماء..
“اتحدى لياليك ياهروب..
واتوضى بصهدك ياجنوب..
واصلى الفرض الحطينى..
واكتبلك عمرى المكتوب..
…………………………….
احضانك فوق الحنية..
ياجميلة ومريم وبهية..
يتفجر فى الموت بركانك..
وايمانك يتفجر فيا..
…………………………….
الدم على الارض خريطة..
مشتاقة ليوم الحرية..
اشلائك بتلم جراحى..
يرتعش الغدر وترتاحي..
ويعود الحلم المسلوب..
…………………………….
ياضى عيون الشهداء..
يازهرة صيدا وسيناء..
ثانية من عمرك تحينى..
ابنى واتبسم واشـــاء..
كلمة من سيرتك تهدينى..
للاقصى يعود الإسراء..
” جمال بخيت”..
……………………………………………………………………………………………..
(الهوامش)
ربما يوما ما يجمعنا جسدك المتفرق .. يلملم أشلاءنا.. يضمنا حلم واحد.. سبيل ودليل.. غاية وهدف.. ربما.. ربما.. (**)..
(*).. أحتفظت ” إسرائيل” بأشلاء ” سناء محيدلي” حتى يوليو عام ٢٠٠٨.. إلى أن تم إستعادتها في مفاوضات تبادل الأسرى وجثثهم بين ” حزب الله” و” إسرائيل”.. وأستلم ” الحزب السوري الإجتماعي” رفاتها في ٢١ يوليو من ذات العام وسلمت إلى أهلها لتدفن في قريتها” عنقون “..
(**) لم تكن قد أكملت مائة وخمسة وثلاثون يوما من الميلاد حتى قامت إسرائيل بعملية دمرت فيها ١٣ طائرة مدنية لشركة طيران الشرق الأوسط على أرض مطار بيروت في الثامن والعشرين من” ديسمبر / كانون أول” عام ١٩٦٨.. في العملية التي حملت إسم ” هدية”.. وكان على” سناء” أن تكبر نحو سبعة عشر عاما حتى ترد لهم “الهدية”!!..
(*) “يروي القديس أوغسطين قصة قرصان وقع في أسر الإسكندر الأكبر الذي سأله كيف يجرؤ على إزعاج البحر؟.. كيف تجرؤ على إزعاج العالم بأسره؟.. فأجاب القرصان لأنني أفعل ذلك بسفينة صغيرة فحسب أدعي لصا.. وأنت الذي تفعل ذلك بأسطول ضخم تدعي إمبراطورا ” (قراصنة وأباطرة الإرهاب ناعوم تشومسكي ص ه)
(**) لعل من لطف القدر بسناء انها نفذت عمليتها الإستشهادية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. بالتأكيد نجت من التساؤلات عن الدين والمذهب.. سنية؟.. شيعية؟.. مارونية؟.. يسارية ملحدة!! ؟.. ونجت أيضا من الصراع السياسي الذي ينخر في جسد وطنها الآن.. تذكروا دوما “سناء” اول فدائية لبنانية..ففي النسيان موت..
“نحن موتاكم ، وللموتى كلام ..
أقسموا أن تذكروه ،
واسألوا أبناءكم أن يذكروه ،
وانقشوه في ضمير الدهر من جيلٍ لجيل ..
واحذروا النسيان .. فالنسيان موتٌ ..
كل ما يُذكر يحيا ..
كل ما يُنسى يموت ..
التحيات لكم ..”
” نجيب سرور”