“قل شكوتك”.. ذلك ما كنتُ أخفِيه
كتبت: أسماء خليل
“في عالمٍ آخر”..هذا ما استطيع قوله لوصف حياتي التي أعيشها الآن، فأنا بحق أشعر أنني لستُ فردًا من ذلك المجتمع الذي نحيا به، فحياتي دوامة تاهت بها كل محاولاتي للوصول للراحة النفسية.
“ي.ح”
أعتقد أن ما سبق هو مقدمة مناسبة لشكوى المُعذبة “ي.ح”، التي عبرت فيها عن آلامها عبر البريد الإلكتروني، راجيةً وجود من يساندها وصولًا للراحة النفسية.
الشكوى
رغم أن الحياة دون بشر ليس لها مسمى ولا معنى، ولكني الآن أريد اعتزال العالم، ربما إلى واحة لا يوجد به سوى الزرع والماء وفقط.
فأنا “ي.ح”.. سيدة ما برحت تخطيًّا الخامسة والثلاثين من سِني عمري، أعيش بإحدى محافظات الوجه البحري، وكنت – في طفولتي – أعيش بمحافظة أخرى، ولكن القسمة والنصيب تدخلا في انتقالي لمكاني الحالي.
كان أبي موظفًا بسيطًا، وأمي ربة منزل، وأنا الأخت الوسطى بين أربع صبية، كانوا جميعًا متفوقين بالدراسة، إلا أنا فلم أكمل دراستي، أو كما توضح لي إحدى صديقاتي، أنني لم أكن غبية ولكن ضيق حال أبي كان يجعله يقصِّر المسافات على من يتعثر بالدراسة، ويجدها فرصةً لإزاحة اللوم من على كاهله.
واصل أخوتي مسيرتهم الدراسية؛ فمنهم المحاسب والمعلم وغيره، أما أنا فحصلتُ على الشهادة الإعدادية ولم أكمل، فتزامن مشواري وأمي في رعاية شؤون المنزل، مرورًا بزواج أخوتي الأكبر من فتيات جامعيات، وصولًا بدق الخطّاب على بابي طلبًا لجمالي، فأنا بيضاء اللون، بنية العينين، ذات شعر “كستنائي” مسترسل ممشوقة القوام.
لم يشفع لي جمالي لنيل ما أردتُ؛ فقد كنت أتمنى أن أتزوج من مهندس أو معلم… ولكن مع مرور الزمن تغيرت وجهة النظر للمرأة، وبات المؤهل التعليمي يشكل قدرًا كبيرًا من جمالها، ربما هو الحسنة العظمى لمن أراد دخول الحياة الزوجية.
ما لبثتُ أرفض كل من يتقدمون لي، وأبي لا يكترث لأنه يحمل هم تجهيزي وإحضار ما يؤهلني للزواج من أثاث، إلى أن أتممتُ السابعة والعشرين من سِنِي عمري، وهنا بدأ أبي وأمي يقلقان بشأن مستقبلي، وخاصةً أن أخوتي كانوا جميعًا قد تزوجوا ولم يتبقَ غيري.
إلى أن جاء اليوم الموعود، فتقدم لخطبتي شاب كان جارًا لنا منذ الطفولة ورحل من مدينتا، حينما رأيته توسمتُ فيه الشهامة والرجولة، وكم كانت قسماته مريحة للعين والقلب، كان حاصلًا على مؤهل متوسط ووالده كان موظفا بسيطًا مثل أبي، وقد توفاه الله هو وأمه، ولم يعد له كثيرًا من الأحباء بالحياة.
كم كنت سعيدة حينها؛ إلى أن أخبرتني أمي بأن الرجل يعمل“بائعًا للفول على عربة”.. لم أستطع وصف ما شعرتُ به، فقد أوصلني الصراع للإحباط ثم الاكتئاب، فأنا أريده ولا أريد بضاعته.
وسط ضغط كبير من أمي التي أضحت وأمست، تحكي لي عن كل صديقاتي اللاتي في مثل عمري أو تصغرنني، كيف أنهن تزوجن وافترشن بيوتًا وعمرن دورًا، وكيف أنهن أنجبن من البنين والبنات، فقبلتُ دون أن التماس موثوقًا منها بأن حياتي ستكون سكر نبات.
تزوجتُ وسط بهجة من الأسرتين، وكان كرم أخلاق زوجي وحبه لي سببًا في التغاضي عن كثير من الأمور، ولكن حين رؤيتي لقدور الفول وعمله وتجهيزه لما اعتاد عليه، ينتابني شعور بأنني لستُ بمكاني، أو لماذا قبلت تلك الزيجة وأنا غير مقتنعة؟!.
مرت السنوات ورُزِقتُ بثلاث فتيات، كنت- دائمًا- أحضر لهن أفخم الملابس وأنا أيضا، كنت أشتري أحدث التصميمات التي تناسب أخلاقي، وكل من رآنا لا يعتقد أبدا أن زوجي بائع فول على عربة بناصية شارع، أخفيت الكثير عن الكثير.
ولكن تكون صدمتي الحقيقية حينما كان من حولي يعلمون ما أخفيه، كم كنت أعود إلى المنزل باكية، وظللتُ أتوارى عن الناس وأخفي حقيقتي وما أنا عليه، حتى أتى اليوم الذي لا مفر منه، قام زوجي بعمل عملية كبيرة، أمره الأطباء بالراحة لمدة ثلاثة أشهر، مرورًا بفترة العلاج، وصولًا لفترة النقاهة.
فقام زوجي بإخباري بما صدمني حقا؛ وهو ضرورة استمراري أنا بالعمل بدلًا منه وكأنه لم يغب؛ لأن المكان الذي يقف به سيحتله غيره، وربما يؤثر ذلك عليه مستقبلًا بشكل كبير جدا، وأقنعني بضرورة استئناف العمل الذي يدر علينا دخلًا كبيرًا يكفينا عن العوز وتكفف الناس.
فكان لابد مما ليس منه بُد؛ قمت وأنا المغصوبة بالوقوف على عربة الفول، والوقوف بنفس المكان الذي كان يقف به زوجي، ولكني وضعت نقابًا على وجهي، ولكن ما يجعلني أكاد أنتحر إذا تعرف عليَّ أحد، وناداني باسمي وعلموا أنني زوجة بائع الفول.
إنني أبكي وأبكي، ولا أستطيع وصف ما أشعر به من غُصة وألم، شعوري بالدونية حفر داخلي نقصًا لا تملؤه قدور العالم إذا امتلأت ذهبًا، بتُّ أبيع الفول في بداية اليوم، وفي آخره يؤويني أحد أركان الغرفة وأنا أجلس القرفصاء أسند رأسي إلى ركبتي لأمسح دموعي.
ماذا أفعل سيدتي؟ وهل هناك من حل لمشكلتي؟!..ساعدوني قبل أن تأتي العاصفة بغبارها المعهود، فلا أستطيع رؤية أي شيء.
الحل
هناك سجنٌ في الدنيا، هو أسوأ أنواع السجون على الإطلاق، بلا أسوار ولا سجَّان، ولا قاضي يحكم بالمدة الزمنية التي يقضيها المسجون، وحتى بلا ذنب ولا عقوبة؛ إنه سجن النفس والأفكار، وعنوانه“ بلا نهاية”!.
عزيزتي “ي.ح”.. لماذا اخترتِ لنفسكِ ذلك السجن؟!.. إنكِ أسيرة الفكر والأوهام، هل في مثل تلك السنوات العِجاف التي يحياها بني البشر في كل أنحاء العالم، هناك من ينظر لأي عمل سواء أكان بائعًا أم صانعًا أم مهندسًا….؟.. أوما آن الأوان لنصنع حضارة ونتغاضى عن سفاسف الأمور؟!.. لقد كان صانعي أعظم حضارة بالتاريخ “مُزارعين”، تأملي جيدًا عزيزتي في تلك المهنة؛ أي “فلاحِين” بلغة العامة والذين لديهم مقياس للبشر.
إن زوجكِ الذي تتبرأين من مهنته؛ ما هو إلا رجل مكافح مسؤول ناجح، يستحق مكانة أعظم من تلك في قلبك، انظري للأمور نظرة أعمق، وبصورة أدق؛ ستجدين أن النبي محمد- صلى الله عليه وسلم – كان راعيا للغنم، كما كان سيدنا إلياس عليه السلام نساجًا، وأيضا سيدنا إبراهيم -عليه السلام -أبو الأنبياء، كان تجارًا للأقمشة.
كان نوح – عليه السلام – نجارًا، وإدريس وداود عليهما السلام، كان أحدهما خياطًا والآخر حدادًا ، ولم يتبرأ نبي من مهنته أبدًا.
بيعي الفول أو بيعي الخضار، الأهم أن تشتري السلام، من الآن انظري إلى نفسك بعين أكثر محبة، شاهدي نفسك من بعيد، ستري أنكِ امرأة مسؤولة، تقف جوار زوجها في محنته المرضية، تريد الوصول بأولادها إلى الرقي الأخلاقي والفكري.
عيشي حياتكِ ولا تتواري من الناس، فتلك مرة واحدة التي نعيشها، فلا تضيعيها في أوهام، واستمتعي بكل لحظاتها واشتري ما يحلو لكِ لإرضاء نفسك وليس لإرضاء الناس.
وعلى أرض الواقع؛ كم من حاقدٍ وحاسدٍ لكِ ولأسرتكِ، فهناك من ليس لديهم عمل، ولا يعيشون في رغد من الحياة؛ فرغم ضئالة مهنة زوجك- من وجهة نظركِ- إلا أنها تكفي للمعيشة بشكل كاف ويفيض عن الحد.
ولا تنسي نصيبكِ من الدنيا؛ فإذا كنتِ امرأة طموحة كما يبدو؛ احلمي مع زوجكِ بامتلاك بمطعم وساعديه في تأسيسه، ثم سلسلة مطاعم، وخاصةً أنه يحبك؛ فسوف تثمر مساعدتكما جنبًا إلى جنب.
هناك أشخاص هم أغنى أغنياء العالم، منهم الشاب “أمانسيو أورتيجا”، كان أبوه عامل بسيط بالسكة الحديد، ولكن طموحه كان عاليًا جدا، فبدأ رحلة الكفاح ووصل، وهناك أيضا أشهر مستثمر أمريكي في بورصة نيويورك، ويدعى“ وارن بافت”، هو الآن ملياردير من أغنى ستة أشخاص بالعالم وكان بائعًا للبقوليات.
عزيزتي، اعتزي بنفسك وامنحيها مزيدًا من الحب، وانظري إلى الحياة بمنظور آخر؛ ولا تكترثي بما يقوله الناس؛ ستجدينها أوسع بكثير، وامشي بطرقاتها كيف تشائين.
منحكِ الله السعادة وراحة البال.
…………………………………………………………………………………………………
راسلوني عبر الواتس آب 01153870926 و “قل شكوتك” وأنت مطمئن لعلِّي بعد الله أستطيع أن أخففها عنك.