محمد قدرى حلاوة يكتب: طابور خبز
بيان
دفع الباب ” الحديدي” الكبير للمدرسة يتحسس طريقه نحو الخارج.. لفحة هواء هبت فجأة محملة برائحة نافذة كريهة.. هي مزيج من اختلاط غبار المباني المهدمة مع أجساد الشهداء المطمورة تحت الركام وقنوات المجارير الطافحة.. أحكم ” الكوفية” حول رقبته وأنفه.. لم يملك أن يمنع ابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيه حينما لمح اللوحة المثبتة على المدخل “مدرسة الفاخورة – وكالة الأونروا”.. يالا هذا العالم المنافق الذي أنشأ منظمة ” لغوث وتشغيل اللاجئين”.. اللاجئين الفلسطينيين دون سواهم.. هل يشعر هذا العالم المرائي بالذنب أم أنه في الحقيقة يمد يداه الملوثة بالدم بعطايا الإحسان للاجئين يمنعهم حق العودة؟.. ترى هل سكن الآن ضميرهم المؤرق القلق؟!.
لم يكن” أبو ناصر ” قد ترك مأواه سأما ومللا.. هو ” الخبز” الذي نفذ.. أفواه الأحفاد الصغيرة.. بناته.. زوجات الأبناء.. هو الآن بسنواته السبعين وقامته المستندة على عصا غليظة رجلهم الوحيد.. الأبناء – منهم من صار صورة محفوظة باهتة للذكرى في صندوق ملئ بالأوراق المصفرة ومفتاح صدئ كبير، هو كل ما تبقى من بيتهم القديم في “عكا” – كثيرا ما أطلقت ” أم ناصر” الزغاريد استبشارا بشهادتهم.. رشت حبات ” الأرز” فوق وجوههم الملتحفة ” بالكوفية الفلسطينية”.
أرواحهم تحلق في السماء البيضاء متمردة على الأسلاك الشائكة.. متخطية الحصار والدمار.. ربما بللت الدموع وسادتها ليلا.
لكنها الآن تتلمس الأمل في عودة الباقين من جنون القتل الآني.. علهم يعودون وقد أخطأتهم قنابلهم الذكية.. وبين الذكرى والأمل والألم.. تتدبر بقايا الأخشاب وتزيل مساحات العفن من ثمرات ” البطاطس”.. والماء يغلى ويمور ناشرا الدخان من فوهة” مرجل” قديم..
أخذ ” أبو ناصر” يجفف حبات العرق وهو يقف في ” الطابور” الطويل.. مأساة حقيقية أن يصبح غاية المسعي أن تحصل على بضعة أرغفة ” خبز” رخيص.
كثيرا ما عاد خائبا آسيفا.. ” نفذ الطحين”.. عبارة قصيرة تفرق المتجمعين متناوبين بين مشاعر الغضب والكسرة والحيرة.. ما معنى أن تكون رجلا إن لم تكف بيتك محض لقيمات ” خبز” و ” طحين “؟.
تلك المرة يملأه الأمل.. كلما اقترب من كوة البائع الصغيرة شعر بالحلم يبلغ منتهاه.. تلح بعض الأنباء على بث صور للبعض ممن “نهبوا” ” أكياس الطحين” من مخازن ” الأونروا”.. هكذا يقول المتحضرون وهم جالسون على مقاعدهم الوثيرة ونار المدفئة تصدر أصواتا هامسة.. بينما تقفز حبات الذرة المتفشرة نحو أفواههم المفتوحة بين لحظة وأخرى.. ألم يروي لنا “أبو ناصر” أنه عالم منافق.
بقى أمامه نحو عشرة أفراد.. تذكر ” ناصر ” أكبر الأبناء.. سماه هكذا على اسم زعيم الأمة.. هو الوحيد الذي آمنوا معه بحلم ” العودة”.. ربما لذلك كانت نكسته نكسة الحلم وجيل كامل معا.. لعل موته كان فاجعة لا ترويها سوي المراثي والمدامع.. لعلك لذلك تلمح صورته معلقة وسط أطار تليد على كل الجدران القديمة.. تلمح بسمة ودمعة من كل وجه متجعد يرنو إليها.. على الأقل منحهم لحظات من الأمل..
صوت انفجار شديد.. لا يعلم ” أبو ناصر” لم شعر بالإنقباض حينها.. ” أرغفة الخبز” التي يحملها في يده الآن لم تخفف من توجسه وقلقه.. أخذ يستحث الخطى ويقدم العصى أكثر فأكثر قدر الاستطاعة.. ليجعل إذن مشوار البحث الأبدي عن دواء “الضغط” و ” السكر” مؤجلا يوما أخر.
كلما أقترب زادت الهواجس ونما القلق وزادت نبضات القلب دقا كالطبول القارعة.. تأكد الآن حدسه.. قصفوا ” مدرسة الفاخورة”.. سقطت ” أرغفة الخبز” على الأرض.. قبض على يديه واحدا من الشباب محتضنا أياه بعد أن هوت عصاه.. أجلسه في الظل تحت لافتة” وكالة الأونروا” وقد مالت على أحد جوانبها من شدة القصف.
يقول الرواة أن ” أم ناصر” قد ارتقت على حالها جالسة أمام ” المرجل” وقد اخترق جسدها الهرم بضعة شظايا.. خيوط الدماء اللزجة هوت مختلطة ببضعة ثمرات من “البطاطس” غاطسة في حجرها.
وأحد الحفيد الذي كانت تهدهده يبكي من الرعب.. الجمع الحاشد يشكر الله حامدا متحدثا عن معجزة نجاة الحفيد الباكي.
آخرون من العائلة الكبيرة حلقوا نحو السماء.. وبقيت بقية .. محض أرقام لا تهم أحد.. ولا يبال أحد بالحذف والإضافة .. ” قم يا زلمة.. أكرام الميت دفنه”.. يقول له الختيار ” أبو فهد”.
يدعو هامسا محركا حبات مسبحته.. عل الباقين يعودون.. أبناء أم أحفاد.. من يزغرد لهم الآن إن ارتقوا؟!.. لكن نسائم الزيتون والبرتقال تفوح تلك المرة مزيحة رائحة الدمار والموت .. يعود الأمل مرواغا مرة أخرى.. هو الآن في طابور أخر.. ومدرسة أخرى.. ولافتة ثانية” للأونروا”.. لعلها لا تميل تلك المرة وهو عائد بالحلم.. ” الخبز..” طولة العمر لك يازلمة “.. يقول جار في” الطابور “.. عبرة اختلطت بابتسامة أخرى نادرة.. مرتجفة من شفاه متشققة.. وهل أهلكنا سوي طول العمر والأمل؟.. همس ” أبو ناصر ” محتضنا” أرغفة الخبز ” الساخنة.
( تصريح : متحدث باسم الجيش الإسرائيلي “قد تسلمنا الإحداثيات – مواقع المدارس التابعة لوكالة الأونروا.. ونفعل ما في وسعنا من أجل ذلك”.. “وأنهم “على علم بالحادث” – حادث قصف مدرسة الفاخورة – وإنه “قيد المراجعة”) .. (انتهي).