محمد قدرى حلاوة يكتب: الحمار الذي لم يؤذي أحد!

بيان

في الوقت الذي رأت فيه “مادلين أولبرايت” وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في حوار شهير مع إحدي محطات التلفزة “الأمريكية” أن موت نصف مليون طفل “عراقي “هو ثمن يستحق من أجل تنفيذ العقوبات الدولية المفروضة على” العراق” في التسعينيات من القرن الماضي فقد صرح “د. رياض القيسي” في معرض حديثه عن برنامج النفط مقابل الغذاء الذي كان مفروضا علي “العراق” في إطار تلك العقوبات بأن “برنامج إزالة الألغام في شمال العراق إستوردت له الأمم المتحدة كلاب.. وبلغت عدد الكميات المستوردة لإطعام الكلاب في مشروع إزالة الألغام خلال ١١ شهر منذ يوليو ١٩٩٩ وحتي يونيو ٢٠٠٠ إحدى عشر ألفا وخمسة وعشرون طنا.. بمبلغ ٣٣ ألف دولار، وكان عدد الكلاب التي تم الإنفاق عليها ٢٨ كلبا وبلغت حصة الكلب خلال الفترة المشار إليها ١١٤٣ دولارا، تورتفع إلي ١٢٤٨ دولار في العام.

أي أن كلفة تغذية الكلب الواحد عشرة أضعاف كلفة الغذاء للإنسان العراقي.. هذا إذا علمنا أن نصيب الفرد العراقي من برنامج النفط مقابل الغذاء ١٢٥ دولار في العام ” !!! (1)

ويبدو أن الأمر كان مثارا للجدل واللغط من قبل البعض.. فقد إنبرت” الأمم المتحدة” ونفت ان يكون ” برنامج النفط مقابل الغذاء يتسم بالفساد وأنه ينفق المال علي الكلاب البوليسية بأكثر مما ينفقه على العراقيين.

وقال “بينون سيفان” منسق الأمم المتحدة لبرنامج النفط مقابل الغذاء أن البرنامج يخضع لتدقيق الحسابات بانتظام ” ويبدو أنه رآه ردا مفحما يخرس الألسنة وباحترافه الدبلوماسية الرطنة متميعة اللفظ والمعني، واصل تخرصاته مضيفا ” إنه يجري تغذية ١٤٠ كلبا تم نشرها بموجب البرنامج في الفترة من يوليو ( ولايري بأنه لزاما عليه ان يخبرنا بنهاية مدة القياس) نحو ٨ كيلو جرامات من طعام الكلاب المستورد ( والذي تزخر به أرفف محلاتنا الفخمة وتجد سوقها المخملي وسط مجتمع يئن من الفقر) لكل منها، وتتم دعمه بطعام محلي من الدجاج والدهون.

وأشار إلي أن متوسط تغذية كل كلب بلغ ٤٠٨ دولارا سنويا”.. ولا شك أن هناك أيادي مرفوعة في شتي أصقاع المعمورة أملا في أن تنال هكذا نصيب-واختتم قائلا بأن ” الكلاب موجودة في شمال العراق ” .. إلا أن السيد بينون نسي أن يخبرنا بشيئين في غابة الأهمية..

أولها أن يعرفنا بنصيب الفرد” العراقي” من الغذاء من واقع حساباته المدققة حتي يمكننا المقارنة بين نصيب الفرد ونصيب الكلب !!! .. وثانيها ان يعرفنا بأسماء السادة الكلاب الذين آلوا على أنفسهم التغرب عن بلادهم لأداء تلك المهمة المقدسة وضحوا في سبيلها الي درجة إضطرارهم لأكل الدجاج المحلي والدهون أحيانا !!!..

كتب الجندي الامريكي “جون مارتس” في مذكراته عن العدوان الأمريكي علي العراق ٢٠٠٣ واصفا مشهد أمرأة عراقية تحتضر.. كتب يقول ” كانت المراة تلبس جوربين أحمرين.. الأيسر منهما كان ممزقا من فوق حتي أسفل الركبة كاشفا عن فخذ بض (!!! ) أتاح رؤيته إنحسار العباءة السوداء التي تلف جسد المرأة.. ربما كانت في الأربعين لست متأكدا ..أما الأكيد أنها كانت تنازع لحظات الموت الأخيرة “.. وكان ” الدم ينزف من وسطها فوق الأسفلت.. رفعت رأسها نحوي متوسلة.. كما لو أرادت ان تقول ساعدني كي لا أموت “.

ويضيف ” توقفت حاملة الجند التي كنت فيها وهي جزء من رتل سيارات مصفحة كانت تتسابق نحو بغداد.. رفعت المرأة ذراعها ورأسها ونظرت إلى وقالت ساعدني إني أموت “.. ويستطرد قائلاً ” إستدرنا .. غابت لحظة قصيرة عن ناظري وعندما نظرت إلى الخلف كان رأسها قد هبط فوق الخط وسط الطريق”.

لم يبدي الجندي الأمريكي أية مشاعر تعاطف نحو تلك المرأة.. وسرد مشاهد موتها بفقرات تلغرافية لا أثر فيها لأية أحاسيس من شفقة أو تعاطف وان كان لم ينسى بالطبع فخذها البض وجوربها الأحمر !!!!..

وأثناء تقدم مجموعته المدرعة القتالية نحو” بغداد” رأوا حمارا وسط حقل وكتب يقول “وكان الحمارهناك طوال النهار فيما كان الجنود يهرولون مسرعين نحو بغداد “.

وأخذ “مارتس” يصف تدمير القوات الأمريكية للأسلحة والذخائر العراقية وهم متقدمين نحو بغداد ثم عاد ليقول ” كان الحمار مربوطا وسط حقل قريب من مخزن الذخيرة ومحاطا بذخائر وأسلحة متفجرة ورصاص وشظايا تطايرت في الهواء فيما هزت إنفجارات شديدة الأرض.

ظل جنود فرقة “تشارلي كمبالي” ينظرون إلى الحمار وهو يرعي لأكثر من ساعتين غير آبه بما يدور حوله “.. ويواصل “في تلك الأثناء بدأ الجنود يشعرون بالرفق نحو ذلك الحمار (!!!)”.. ” وتمنوا له – للحمار – ان يبقي علي قيد الحياة وسط تلك الفوضي العارمة .

وعندما حان موعد الرحيل سأل أحد الجنود الضابط “خوسيه سيركارو” (٤٠ سنة ) وهو من أصل بورتوريكي.. أليس من المفروض أن نفجر ذلك المخزن للذخيرة قرب الحمار ؟.. فأجاب “سيركارو”: لست أرغب بقتل ذلك الحمار.. إنه لم يؤذ أحدا (!!!)”.. ومضوا دون أن يفجروا المخزن (٢).
ليت المسؤولين العسكريين الأمريكيين كلهم يحملون شفقة السيد “خوسيه سيركارو” ، المفروض علينا أن نعلم اسمه وسنه وأصله الولاياتي فهو ليس بالطبع مثل مئات الآلاف من الضحايا العراقيين المجهلين) ليتهم يحملون شفقته ولكن نحو الإنسان هذه المرة..كنا علي الأقل قد تفادينا إزهاق أرواح بشرية لاتحصي لم تجد من يشفق عليها…

” جورج بوش الإبن” مدمر العراق وقاتل مئات الآلاف من العراقيين وملايين المهجرين.. يملك قلبا شفوقا رحيما شديد الرقة نحو الحيوان.. فقد” وجه” بوش الإبن” الدعوة الي الكلب ريكس الشهير لحضور خطابه عن حالة الاتحاد في الكونجرس “ (وللعلم فان خطاب حالة الاتحاد هو أهم خطاب يلقيه الرئيس الأميركي طوال العام).

وقد اكتسب ريكس شهرته بعد أن تمكن من إنقاذ الجندية “دانا” التي تعمل في سلاح الجو الأمريكي من الموت في انفجار استهدف عربتها العسكرية في “العراق”.. وطالبت “دانا” بتولي رعاية الكلب العسكري.. إلا أن القوانين العسكرية الأمريكية تمنع شراء أي كلب يعمل لمصلحة الجيش قبل إنتهاء مدة عمله مع الجيش “.

ولا يوضح الخبر مدة عقد العمل مع الجيش الأمريكي التي وقعها ريكس.. وهل قبل الدعوة لحضور الخطاب وجلس مضجعا بين الضيوف أم أن ظروفا حالت دون ذلك.. إلا أنه في كل الأحوال فإن ريكس قد حظي بتكريم لم يحظي به رؤساء دول يحلمون بهكذا تكريم وحفاوة.

” جورج دبليو بوش ” المؤمن المحتسب تعرض لمصاب جلل عندما نفقت كلبته سبوت البالغة من العمر ١٥ عاما وكانت سبوت ” تعاني من جملة أمراض وأصيبت بالعديد من الجلطات.

وقال مسئول في الإدارة الأمريكية (!!!)..”إن الكلبة ستدفن في مزرعة الرئيس الامريكي بولاية “تكساس”.. وأن عائلة الرئيس كانت حزينة للغاية بسبب رحيل سبوت التي وصفها بأنها كانت رفيقا مخلصاً ومحبوبا من أفراد عائلة الرئيس، ومن المعروف أن بوش يملك كلبا أخر اسمه بارني “.. (3) .

ومن المعلوم أيضا أن مزرعة الرئيس الأمريكي الأسبق ” جورج بوش الإبن ” لها مكانة خاصة في قلبه ولم يكن يدعو إليها سوي المقربين من زعماء العالم.

والخبر لم يفصل مراسم تشييع الراحلة سبوت وهل كانت جنازة رسمية دعي اليها زعماء العالم ؟.. ويمكن لنا أن نتخيل كم برقيات العزاء التي انهالت من شتي دول العالم للمواساة في الفقيدة الغالية.

أما كلبة “جورج دبليو بوش” الأخرى بارني فلها مكانة فريدة.. فعندما تصاعد التيار المطالب ” لبوش الإبن ” لسحب القوات الأمريكية من العراق.

كان رفض بوش واضحا وصريحا وأعلن ” إنه يحافظ علي توجهه هذا – استمرار الحرب – وإن لم يبقي له سوي تأييد لورا وبارني – زوجته وكلبه – وخصوصاً أنه يعتبر بارني ابنه الذي لم ينجبه (!!!) “.

إذن فإن هزة ذيل من بارني أو زمجرة رافضة كانت كفيلة بجعل “جورج دبليو بوش” يراجع موقفه من العدوان علي “العراق” وربما لو أستشعر رفض بارني لكان قد أوقف الحرب.

ترى هل كان علينا إذا أن نكرم” ريكس” بالأنواط والنياشين.. ونترحم جميعا علي” سبوت” ونقف دقيقة حدادا علي روحها الكريمة؟.

هل كان علينا مداعبة” بارني” وإكتساب صداقته؟ …عله كان بهزة من ذيله أو نبحة حبور قد غير واقعنا.. وأيدنا دوما بصوته ونباحه..كنا حينها إذا قد ربحنا مصير ذلك الحمار الذي لم يؤذي أحدا..

” كل ما هو مخطوط ليس اعتراضا علي الرفق بالحيوان.. بل اعتراضا علي الإستهانة بالإنسان.. وجودا وروحا ومصيرا توقف في لحظة من التاريخ الهزلي على موقف السيد بارني.

………………………………………………………..

( الهوامش)

( ١ ) جريدة العربي الناصري ٦ يناير عام ٢٠٠٢
( ٢ ) جريدة الحياة اللندنية ٣٠ ابريل ٢٠٠٣
( ٣) مجلة اكتوبر العدد١٤٧٢ بتاريخ ٢٩ فبراير ٢٠٠4

اقرأ أيضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: الأطفال الخدج بين فلسطين والعراق

زر الذهاب إلى الأعلى