محمد قدرى حلاوة يكتب: مرثية الصمت

بيان

(١)

كنت قد انتهيت لتوي من قراءة الكتاب الوثائقي “الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية” للمفكر الأورجواياني المبدع “إدواردو جاليانو”. والذي اختتمه بتلك العبارة المحفورة في غور الأعماق “أحيانا ما يكون الصمت تواطؤ”.
ظل سحر السرد وتلك العبارة الذابحة للوجدان يصرخان في عقلي طوال الليل يسرقان النوم، سالبين هدأة الوسن وعمقه.
الساعة الرابعة بتوقيت القاهرة فجر يوم العشرين من مارس 2003. أدرت التلفاز وقلبت بين قنواته حتى توقفت عند قناة “الجزيرة”. كنت متدثرًا تحت الغطاء لائذا من قسوة البرد في ساعات الفجر الأولى. أحيانا ما تكون الأيام الأخيرة من الشتاء أكثر قسوة وحدة من أيام ولادته الأولى. هل هو مثلنا يتشبث بالوجود ويرفض الاستسلام للرحيل والقدر؟ ربما. أمسكت بكلتا يداي بكوب الشاي الساخن وأشعلت لفافة من التبغ وبدأ الدفء يسري في أوصالي شيئًا فشيئًا.

في الخامسة إلا عشر دقائق تقريبا، انقطع بث إعادة أحد البرامج وانتقل إلى إذاعة خبر عاجل من “بغداد”. وأظهرت الصور المتتابعة انفجارات عملاقة هائلة مدوية تدك الأرض دكا وتضيء لون السماء الحالك معلنة فجرًا مبكرا جديدًا من صباحات الدمار ومرثية النوازل والنكبات. أحيانا ما يبدو لي أننا أمة لا نملك تاريخنا قدر ما نملك ذكريات. ندر أن يوجد يوما لا يحمل ذكرى نكبة أو نازلة أو نكسة أو مذبحة أو كارثة أو هزيمة حلت هنا أو هناك. الانتصارات ومضة شهاب خاطفة تحترق في سماء مدلهمة حالكة. النجوم المبثوثة على صفحتها غير قادرة على اختراق حواجز الغيم والسديم. هل يكتمل القمر سوى أياما معدودة ثم يعود متصاغرا متضائلا مختفيا نحو العدم؟ قد لا تجوز المقاربة بين الظواهر الكونية والإرادة والفعل البشري. لكن هل بقي لنا حقا من إرادة أو فعل؟

رن جرس منبه الهاتف في السابعة صباحا صادحا بصوت “منير” وتساؤلاته النافذة كالنصل في الحشا:

“ساح يا بداح.. يا سؤال جراح.. ما الذي كان.. ومعادش وراح.. قمر إنطفي.. وإنتفي.. أختفي.. نهر مبلش حتى الريق.. وآه يا براح عمال بيضيق.. صبح وزيه الصبح التاني.. ليل ملضوم في الليل التاني.. وأنا مش رايح.. أنا مش جاي.. أنا مش واقف حتى مكاني..”

لم أكن أحتاج لمؤقت يوقظني. وآني لي بالنوم في تلك الليلة الدامية. على أن أتذكر تاريخها جيدا لأراكمها كذكرى جديدة من تاريخ عبثي مهلك. تركت “المنبه” يعيد مرثية التساؤلات الصافعة. لم يكن من سبيل للنوم بعدها. فنجانًا من القهوة “المضبوطة” وبعض الماء البارد على الرأس كفيلان بخلق حالة انتعاش وقتية تكفي للذهاب إلى العمل. ولنؤجل أحلام النوم إلى ساعات أخرى قادمة.

(2)

توقفت للحظات لشراء صحف الصباح.. ولم أنس بالطبع الراديو ” الترانزستور” لسماع نشرات الأخبار.. واستمعت إلى خطاب السيد ” جورج دبليو بوش”.. كان بوش يبشر ببدء عملية تحرير العراق ونزع أسلحة الدمار الشامل ورفع المظالم عن شعبه وخاطب القوات الأمريكية قائلا : “سيدرك الأعداء الذين تواجهون عمق خبرتكم وشجاعتكم في الحال وسيشاهد الناس الذين ستحررونهم روح الشرف والطيبة التي تتسم بها القوات المسلحة الأمريكية”.. وقد شاهدنا ووعينا بأنفسنا بشارة السيد الأمريكي العظيم.. (ربما أعود يوما لنشر نص الخطاب بلغته الأوريلية الجزلة).

مضت ساعات العمل ثقيلة بين التنقل بين محطات الأخبار حتى كاد مؤشر الراديو يلهث.. كانت فرق التفتيش قد جالت كافة ربوع العراق وفتشت كل ركن فيه بما فيها القصور الرئاسية ولم يعثروا على أي دليل لإمتلاك العراق هكذا أسلحة مزعومة.

وعدت بالذاكرة إلى ذلك الاستعراض البائس للأدلة المدعاة في مجلس الأمن في فبراير ٢٠٠٣ والذي قدمه” كولن باول ” وزير الخارجية الأمريكي وأحد ” الحمائم” فى التصنيف الواهم للعقل العربي السليب وهو يستعرض أنابيب إختبار وصور شاحنات على أنها دلائل إمتلاك العراق لأسلحة كيماوية.

كانت القوة تتحدث.. وعندما تتحدث القوة فإنها لا تبذل مجهودا كبيرا – ولا ترى داعيا لذلك – لإقناع الخائرين الضعفاء.

كان إخراج المشهد الهزلي يتم دون عناية ولا اكثراث.. قرار الحرب قد تم إتخاذه.. وهل ثمة حاجة لإقناع القتيل بعدالة قتله عندما تنطلق الرصاصة؟!.

ولم تكن مزاعم تحرير العراق لتخفي على العقل الفطن.. فالقوة لا تأتي أبدا بالعدالة والحرية.. منطق القوة يحتاج إلى أذرع وسلاح ويفرض منطقه بالقمع والقهر.. منطق القوة لا يسعى للإقناع واكتساب العقول ولكن لإخضاعها وإسكاتها.. وفرض فضيلة الصمت والخرس خوفا ورهبا.. وينجح هذا المنطق دائما في اجتذاب جيوشا من المنتفعين والناهبين وبائعوا الضمائر والأوطان..

عدت أخيرا من العمل إلى فراشي الوثير بعد تناول وجبة ساخنة دسمة.. وذهبت أغط في نوم عميق.. لابأس من تأجيل مشاهدة أخبار الحرب ساعات أخرى.. الحرب لن تتوقف على أية حال.. رأيت فيما يرى النائم ” جوليانو” قد أخذ أزميلا يحفر به نقشا مبهما بلغة غير مفهومة على جدار عال.. وعندما لوحت له بيدي مناديا إياه ومشيرا له بكتابه الوحشي.. إلتفت إلىّ وهو يتفرسني شذرا بعينين ذئبيتين.. ونظرت أسفل قدمي لأجدني أقف على بركة من الدماء السائلة المتدفقة.

وإستيقظت فزعا ونبضات قلبي تتسارع.. كوبا آخر من الشاي الساخن ولفافة لا تكاد تنطفئ من التبغ كفيلان باستعادة الهدوء وبث السكينة لأعود بعدها متدثرا بغطائي الثقيل متقلبا بين القنوات أتابع ” مرثية العراق” ونهر دماء أبنائه السائلة كنبع دافق يخط طريقه ساريا بين ” دجلة” و ” الفرات”.. وخاطر يدق في رأسي كالمطرقة.. أينما تفجرت آبار النفط.. سالت روافد الدماء.. في أي منطقة بائسة كتب لنا أن نعيش؟!.

(٣)

تناولت بعض الشطائر وإصبعي محموما لا يتوقف عن التنقل بين القنوات.

أصبحت المشاعر جامدة صخرية.

الصورة ولهاث الخبر العاجل أصابت المشاعر وجعلتها متيبسة متحجرة .. فالصورة سريعة الإلتقاط من العين، آخذة سبيلها للإلتصاق بالذهن والتوغل في الوجدان على الفور.. فهي لأول وهلة تشكل الحقيقة الناطقة المطلقة، وهو أمر يحمل قدرا كبيرا من الحقيقة.

إلا أن هذا لا يمنع من أنها يمكن أن تكون سبيلا إلي تبلد المشاعر والوجدان بتكرار بث صور الضحايا حتى تصبح صورة الأجساد الممدة والأشلاء المبتورة شيئا اعتيادا لا يثير مشاعر الحزن والرفض والإستنكار.. وتتلاشى أحاسيس التضامن الإنساني شيئا فشيئا.

كنت أتناول الطعام في شهية بينما أشاهد آثار الدمار والضحايا.

سلبتنا الحداثة إنسانيتنا بحذق وبراعة.. وكان العدوان على العراق ( والذي أسمته الكثير من صحفنا العربية المتماهية فى الحرب في العراق.. كأن تلك الحرب تدور بين كائنات فضائية مجهولة.

وكان الوصف المتماهي وسيلة للتنصل من وصف الطرف المعتدي والضحية) بداية لظاهرة إحتواء وسائل الميديا لتصبح كيانا واحدا يخضع لمصالح مموليه.

صرنا نرى الصحفي مقدم برامج حينا ومحللا حينا آخر.. ومقدم البرامج صاحب عمود صحفي ثابت وهكذا دواليك.. نجحت المصالح في خلق الرواية السائدة المرغوبة واحتواء النقد المرتب الرؤوم.. ونبذت وجهات النظر الناشزة عن ترديد النغمة المرغوبة من جوقة عريضة.

توقف العزف يعني توقف المنافع والحصاد.. يمكن إحلال عازفين آخرين لا ينفكون عن استعراض مواهبهم أملا في الإلتحاق بالجوقة.. وبقي الرافضون والمنكرون لمنطقية الرواية المحكمة خرافا شاردة مقصية في صحراء بلا كلأ ولا ماء.

كانت أخبار المقاومة الباسلة من الشعب العراقي تتوالى ناشرة تباشير الأمل والفخر.

يعجب المرء أيما إعجاب بالمقاوم الذي يواجه عدوا مستعمرا ظالما متجبرا.. لكنه في أغلب الأحوال يصفق له من بعيد وعلى إستحياء.. يتمنى له النصر خفية.. يخشى الظالم أكثر مما يتعاطف مع المظلوم.. يتحاشاه – الظالم – ويبتسم في وجهه أملا في إماطة أذاه.. هو لا يدرك أنه لا شك ملاحقه عندما يفرغ من مهمته.. وهناك جمع أخر يتضامن مع المستعمر ويحذو حذوه أثر الخطو بالخطو.

متلقطا فتاته التي يلقيها له كلما مضى خلفه.. هؤلاء يظلون دوما كسيري الأعناق – بحكم شخوصهم نحو الأرض أبدآ في إنتظار الفتات – يتطبعون بطبعه ويسيرون سيرته وينتهجون نهجه .. هل يحتاج الأمر إلى ذكر أمثلة أو برهان على القاعدة؟.. أم نذكر قليل استثناء منها تحقيقا وإثباتا لها.

الساعة الآن الثالثة صباحا.. بدأت الأخبار العاجلة تقل.. والبرامج التحليلية يعاد بثها.. هو ليس وقت ذروة مشاهدة.. فلتتوقف أنباء الحرب إذا.. وليغفو المراسلين قليلا.. يمكنك أنت أيضا أن تنام.. وتضع رأسك على الوسادة مستمتعا بالدثار في صقيع الفجر.. شريطة أن تنحي من ذهنك سؤالا وحيدا.. ترى هل يستطيع العراقيون النوم الآن؟.. لكنه جوليانو اللعين الذي يطاردني دائما وكأنه يهزني من كتفي لإيقاظي قائلا : ” أحيانا ما يكون الصمت تواطؤ”..

(٤)

” على الجانب الآخر.. هناك أبناء العهر الذين يميلون إلى تمزيق البشرية والحياة.. يعيشون أعمارا طويلة ولا يموتون.. ذلك لأنهم لا يملكون غدة نادرة في الحقيقة تسمى” الضمير “.. والتي تقوم بتعذيبك على مر الليالي”.. ( إدواردو جوليانو).

اقرأ أيضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: طابور خبز

محمد قدرى حلاوة يكتب: الحمار الذي لم يؤذي أحد!

زر الذهاب إلى الأعلى