محمد قدرى حلاوة يكتب: « شبابيك »
بيان
بدايات عام (١٩٨١).. كنت حينها تلميذا في الصف الثالث الإعدادي.. وفي أحد أيام يناير بطقسه الممطر البارد، سمعت أن ألبوم ” محمد منير” الجديد ” شبابيك” سيصدر يومها.
ارتديت ملابس ثقيلة.. وأستقللت ” المترو” متجها نحو ميدان ” روكسي” حيث أكشاك بائعي شرائط الكاسيت تحت البواكي القديمة الباهتة التي مر علي إنشاؤها أكثر من ثمانون عاما حينها.. وما إن وصلت حتى وجدت المطر ينهمر بغزارة.. ووجدت حشدا ملتفا نحو البائع وعندما سألته عن الألبوم الجديد.. أجابني بأنه لم يصدر بعد.. وأن كل هؤلاء الملتفين حوله كانوا يسألون نفس السؤال.. ثم أخذ يعرض على بعض الألبومات الجديدة لهذه الفرقة أو تلك أو ذلك المطرب وتلك المطربة.. فأعتذرت له بلطف وأنا مصاب بحالة من الإحباط الشديد.
ثم أهتديت لفكرة أن أجلس بعض الوقت على أحد المقاهي إحتماء من المطر محتسيا المشروبات الساخنة.. وأملا في صدور الألبوم بعد ساعة أو ساعتين.. و شرعت فورا في تنفيذ الفكرة.
بعد انتظار دام ثلاث ساعات صدر الألبوم أخيرا.. وتمكنت من الحصول على نسخة منه بصعوبة.. وكانت اللهفة والسعادة الشديدة تتملكني وأنا مستقلا “المترو” فى طريقي للعودة لمنزلي.. و أخذت أقلب الشريط في يدي وقمت بحل الغلاف المحيط به… وقرأت أسماء الأغاني والمؤلفين والملحنين.
لفت نظري أسماء جديدة تأليفا وتلحينا لم يتعاون معها ” منير” من قبل في ألبوميه السابقين.. وانتبهت كذلك إلى أنه مكتوب على الألبوم ” مع فرقة يحيى خليل”..
ما إن وصلت إلى منزلي حتى أغلقت باب الحجرة وأخذت أجفف شعر رأسي من أثر ماء المطر غير ملتفتا الي اللعنات التي تنصب علي جراء دخولي بالحذاء الملوث بالطين والذي أنثره في كل أرجاء المنزل، ماضيا مسرعا نحو حجرتي.
أدرت شريط الكاسيت وأنا لا أعلم كم مر علي من الوقت.. بينما أقلب الشريط وأعيد تشغيله والاستماع إليه المرة تلو المرة.
كنت مأخوذا في عالم سحري يعزلني عمن حولي وعن العالم كله.. متأملا في كل كلمة وحرف ونغمة.. واكتشفت حينها هذا المزيج المذهل الذي صنعه إلتقاء صوت ” منير” مع كلمات ” عبد الرحيم منصور” وألحان “أحمد منيب” مع ” فرقة يحيى خليل”.
كانت هناك بالطبع أغنيات مبدعة أخرى بالألبوم لشعراء عظام آخرين ” فؤاد حداد” و ” مجدي نجيب” و “شوقي حجاب”.. وملحنين آخرين أيضا الإستثنائي ” بليغ حمدي” و ” عزيرَ الناصر” وحسين جاسر “.. إلا أن الرباعي الأول مرحلة لا تنسى ولا تمحي من تاريخ مسيرة “منير” كأنه وجد الأرض التي يخطو عليها وينغرس فيها ويمد جذوره في القلوب والعقول.
كانت” الليلة ياسمرة ” بلحنها المبهج وكلماتها الرائعة تنقلك إلى”شبابيك” بشجنها ومعانيها الموغلة في العمق آخذة بيدك إلى “شجر الليمون” وتردد معه ” فينك.. أنا من غيرك.. أنا مش عاقل ولا مجنون”.. منتقلا إلى ” كريشندو” ضفيرة الكلمات المجدولة متراقصة بلحن ساحر.. ذاهبا نحو “أشكي لمين” وأنت تتسائل كيف تكون كلمات شجية تغني بتك البهجة وذاك الفرح وتكون الإجابة المبدع ” بليغ”.. لتتوقف في لحظات من الشجن مع “يازماني ” إلى أن تلقى في آتون حرقة الغربة والاغتراب عن الزمان والمكان في “على المدينة”.. لتجد على وجهك ابتسامة فرح وبهجة وأنت تصدح بصوت عال ” الكون كله بيدور” .
وكلما أردت الإنفصال عن هذا الكون بروتينه وتوتراته وزيفه وصراعاته وجدتني أذهب نحو ” شبابيك ” مستعيدا اللحظات والذكريات والفرح والبهجة.. متذكرا ليلة صدوره بمشاعرها ولهفتها ودهشتها ومطرها وشعر رأسي المبلل.. مترنما بكلماتها.. راقصا مع ألحانها.
ظل ” شبابيك” علامة في حياتي لا تمحي وأثرا لا يزول.. مازال هو ” كشك” بيع الكاسيت فقد مضى زمن الكاسيت.. ومضت أيامنا معه.. ولكنها باقية أيضا تحيا بداخلنا.. نطل منها على ” شبابيك” الحلم والأمل.