محمد قدرى حلاوة يكتب: ” الرفاق “

بيان

(١)

ما إن تدق الساعة التاسعة صباحا حتى يلمحه الجالسين آتيا من بعيد..يسير بخطوات متمهلة متأبطا عدد الصباح من جريدة ” الأهرام”..يجلس على مقعده المعتاد على ناصية الطريق أمام المقهى..ودون إشارة أو نداء منه يأتي النادل حاملا فنجان القهوة المضبوط وحجر ” الشيشة” وكوب الماء المثلج.. يأخذ في تقليب صفحات الجريدة في صمت لا يشوبه سوي آلات التنبيه من حوله و” قرقرة” مياه الشيشة..

أستاذ.” إسماعيل” يقول عنه رفاقه أنه مناضل قديم.. رجل ناهز الخامسة والسبعين من عمره.. رشيق القوام.. حسن الهندام.. دقيق الملامح.. يضع على عينيه نظارة طبية سميكة ويعتمر قبعة سوداء صغيرة.. أحد أفراد ” منظمة الشباب” فى العهد ” الناصري”.. يؤمن بثورة ” يوليو” و أهدافها إيمانا عميقا لا يمنعه من الإعتراف بأخطائها ومثالبها.. بكى بكاء حارا يوم وفاة الزعيم ” جمال عبد الناصر” وماج مع طوفان البشر يوم جنازته.. سبع سنوات كاملة قضاها على الجبهة.. شاهدا على” نكسة” ٦٧ وفاعلا في نصر” أكتوبر” ٧٣.. سرقه الزمن ولم يتزوج وظل يعيش وحيدا في “شقة” صغيرة في ” وسط البلد” لا تبعد كثيرا عن مقهاه الأثير..

كان موظفا صغيرا في إحدى المصالح الحكومية في منتصف السبعينييات عندما عاد للحياة المدنية.. ناهز حينها الثلاثين من عمره.. شاهد بعينه التحولات في السياسة والإقتصاد.. وتبدلات الوجوه والرجال.. رفاقه وزملاء النضال.. منهم من تشبث بالفكرة والهدف.. وآخرون قد تماهوا وبدلوا.. عاصر ” الإنفتاح” وظهور ” القطط السمان” ( إسم كان يطلق على رجال المال والأعمال الفاسدين والمشكوك في مصادر ثروتهم وتجسد وبرز في الرسوم الكاريكاتورية للراحلين ” حجازي” و ” صلاح جاهين” بسمنتهم المفرطة وسيجارهم الكوبي ونظاراتهم الشمسية السوداء) لا يستطيع أن يمحي من ذاكرته أيام” إنتفاضة الخبز ” فى يناير ١٩٧٧.. الإحساس الطاعن الذي أدمي أعماقه حين زار الرئيس الراحل ” أنور السادات” ” القدس” وما تبعها من إتفاقيات ” كامب ديفيد”.. زملاؤه المقبوض عليهم بعد خطاب ه سبتمبر ١٩٨١ _ لم يكن تنظيميا ينتمي لكيان أو حركة أو تنظيم منذ فارق منظمة الشباب وربما لهذا لم يقبض عليه_.. مزقته التفسخات والملمات التي أصابت الأمة العربية ومجتمعاتها نتيجة تدفق ثروات النفط.. ما حدث للعراق منبع الحضارة وأصل الحرف والكتابة.. ماذا حدث؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومتى نكبنا لنصل لهذا المصير في عقود معدودة من عمر الزمن.؟..

منزله يبدو متحفا قديما لصور الأبيض والأسود.. هذا ” ناصر” في ميدان “المنشية” يعلن تأميم “قناة السويس”.. وذاك هو أيضا يرفع يده محييا الجماهير العريضة في ” دمشق” ممسكا بالأخري بيد الرئيس ” شكري القوتلي”.. تلك صورته يعلن التنحي.. وهذه مجموعة صور لطوفان الجماهير في سبتمبر الحزين يوم الجنازة.. كتب ” الإشتراكية ” تتناثر في كل الأركان هنا وهناك.. قطعة من الماضي وأحلامه.. يقتات عليها مواجها عبث الحاضر وأضغاثه..

” إسماعيل ” عاشق للقراءة وكاتب جيد _ أو هكذا يمدحه رفاقه _… كتب بضعة مقالات لمجلات لا يقرأها أحد.. صار يكتفى بالقراءة وكتابة مذكراته وأراؤه ولا يطلع عليها سوي أصدقاؤه المقربين.. ” بدر” و ” فريد”.. الأول موظف حكومي مثله.. والثاني قاص متوسط الشهرة وسليل عائلة ريفية عريقة وربما لذلك كان أكثرهم يسرا وسعة.. صداقة إمتدت أكثر من خمسين عاما.. وصار لقاؤهم اليومي _ ما عدا الجمعة _ عادة وسنة لا يحيدون عنها أبدا.. اللهم سوي لعلة أصابت أحدهم أو ملمة ألمت بآخر..

(٢)

كانوا يجلسون ثلاثتهم كل يوم متدثرين بالذكريات وبحكايات النضال.. بدا حديثهم للغريب ثقيلا مملا هاربا من سياق وسيرورة العصر فأكتفوا بصحبتهم وفرضوا _ أو فرض عليهم لا فرق _ سياجا سامقا من العزلة والإنكفاء..كأنهم قد إستقلوا آلة الزمن فعصفت بهم بعيدا في حاضر لا يبالي بهم ولا بثرثرتهم الفارغة والخاوية من أذان تسمع أو عقول تعي.. هم كذلك يرفضون واقعهم ويلعنونه.. الغربة في الزمان والمكان.. أي معني للغربة إذا إن لم يكن ذلك أقساها وأفدحها؟..

تحدث ” بدر” ساخرا وقال ” هل تدرون ما فعل عبد المعطي _ رفيق النضال القديم _ أمس.. لقد كتب مقالا متماهيا متخاذلا يدعو صراحة للتطبيع والتفكير بشكل جديد وأكثر عملية في إدارة الصراع العربي _ الإسرائيلي”.. رد فريد بملامح جادة ” ليس في الأمر جديد أو ما يدعو للدهشة.. هو ودع النضال من قديم.. منذ خرج من المعتقل إبان مظاهرات يناير ١٩٧٧ وقد أخذ مسارا مغايرا تماما.. قال إنها مراجعة أفكار وإنقلب نصلا يطعن في كل ما آمنا به وناضلنا من أجله ” رد” إسماعيل ” بهدوءه المعتاد ” البعض يمتطي النضال كمهنة أو حرفة.. هناك من يعتزل النضال باحثا عن المغنم وفرارا من المغرم ويعتبر تاريخه النضالي سلعة يتاجر بها ويتربح منها.. تذكروا أنه منذ التمانينيات صار ” عبد المعطي” ملئ السمع والبصر وأفردت له صفحات الجرائد يكتب فيها أني شاء ومتى رغب.. رغم تهافته الفكري وركاكة ورثاثة أسلوبه.. ” على سالم” داعي المقاومة في ” أغنية على الممر” هو ذاته داعي السلام المتخاذل والحاصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة ” بن جوريون” وصاحب كتاب “رحلة إلى إسرائيل”.. ” لطفي الخولى” اليساري المغوار في الدفاع عن القضية الفلسطينية هو نفسه عراب ” إعلان كوبنهاجن” الداعي للتطبيع.. الأمثلة كثيرة يا رفاق”..

سادت لحظات صمت عميق قطعها” بدر” قائلا” لقد أخطأنا جميعا بالطبع عندما إنعزلنا عن الجماهير.. أكان ثمة تناقض في أن نتبني قضايا العمال والفلاحين ونحن نحدثهم عن “البروليتاليا” و ” الديالكتيك”؟.. اللغة أداة التواصل ونحن فقدناها.. الإلتحام مع الجماهير لم يتحقق ونحن لم نعترف بذلك”.. وهنا تدخل ” فريد” بالحديث وقد إرتسمت على وجهه ملامح الحزن قائلا” لقد طمست القضايا المصيرية وطغت أزمة الهوية.. ومحيت وتبدلت الأولويات.. الوحدة العربية؟..لا أحد يبالي بها بل صار الحديث عنها مدعاة للسخرية.. فلسطين؟.. الكل يهرول لاهثا ليلحق بقطار التطبيع ونتركها تقضم قطعة بعد قطعة لتواجه مصيرها وحدها.. العدالة الإجتماعية وإعادة توزيع الدخل وكل تلك الدعاوى.. تتبخر أمام أول منحة أو علاوة أو سخاء محسن كريم.. إننا ندافع عن قضايا لا يهتم أصحابها بالدفاع عنها.. “..

عاد” إسماعيل ” للحوار ثانية وقال” لقد شوهوا وعي الناس.. صار المثقفين والكتاب محض كتبة في بلاط الحاكم.. بعضهم يلعب دور ” المهرج” فى قصر السلطان.. ويجيد التلون والقفز من موضع فكري لآخر تماما كما يقفز المهرج بوجهه المكلل بالأصباغ الزاعقة.. والبعض الأخر يكتفى بدور ” جحا” فى مجالس ذوي الحظوة والكبراء في حضرة رجال الأعمال”.. قلة نادرة تصدح في الفضاء صارخة منبهة لكن لا منصة لها ولا منفذ ولا أحد يسمع رجع صداها..”..

أتت الطاولة وأنهمكوا في اللعب.. ” شيش بيش.. إتزنقت يا حلو” صاح ” بدر”.. أغلق ” إسماعيل” الطاولة وشرد بخياله وقد عادت به المخيلة لتلك الليلة في ” حوش قدم” في رحاب القاهرة القديمة.. عندما صدح” الشيخ إمام ” بصوته العجيب يغني كلمات” نجم ” الموغلة في عمق الجراح المضمدة بالملح:

” مصر يا امّة يا بهية..
يا أم طرحة و جلابية
الزمن شاب و انتي شابة..
هو رايح و انتي جاية
جايه فوق الصعب ماشية..
فات عليكي ليل و مية
و احتمالك هو هو..
و ابتسامتك هى هى..
تضحكي للصبح يصبح..
بعد ليلة و مغربية..
تطلع الشمس تلاقيكي..
معجبانية و صبية
يا بهية.. ”

تذكر خبرا صغيرا قرأه في الجريدة المطوية على الطاولة عن حفل الفنان” تامر حسني ” _ الهارب من التجنيد _ في ذكرى نصر أكتوبر.. وإلتفت قائلا” هل كنا نعتنق كذبة كبيرة حقا وبمنتهي الصدق؟ .. أم أننا آمنا بأحلام عصية عسيرة التحقق ساربة منفلتة من أيدينا وبراثن الواقع والإمكان؟.. وما الذي جعل تلك الأحلام مستحيلة التجسد نائية التشخص ؟ .. كنا مؤمنين مخلصين حقا وهذا يكفي ولكنه لا يمنع من نقد أنفسنا والإعتراف بأخطائنا “..

غادر” إسماعيل ” المجلس فجأة دون وداع وذاب في زحام الطريق.. وكان أصدقاؤه قد أعتادوا منه ذلك ولم يندهشوا.. وترك جريدته على الطاولة مطوية على صفحة الكلمات المتقاطعة وقد أبرزت حروفه المبثوثة على رقعتها حسن خطه.. وإن لم يكن قد تمكن من حلها كاملة.. فتناولها” بدر” مستكملا فض إبهام ما غمض.. أما فريد فقد وجه حديثه لبدر قائلا ” أنا مش عارف هوه” إسماعيل ” لغاية النهاردة بيشتري الجرائد ليه.. هيه بقى فيها حاجة تتقري؟ “..

اقرأ أيضا للكاتب:

  محمد قدرى حلاوة يكتب: مرثية الصمت

محمد قدرى حلاوة يكتب: الأسطورة

زر الذهاب إلى الأعلى