محمد قدرى حلاوة يكتب: ١١ سبتمبر الآخر

بيان
كنت قد أستيقظت من غفوة قصيرة في ساعات العصر وأخذت أمارس طقوس قد أعتدها من إعداد كوب من الشاي الساخن وإشعال لفافة من التبغ.. ثم جلست أمام التلفاز أتنقل بين القنوات وتوقفت عند قناة ” الجزيرة” لأشاهد نشرة الساعة السابعة مساء.. وجدت نفسي فجأة أتوقف متجمدا وكاد كوب الشاي أن يسقط من يدي.. وبصري شاخصا نحو صور يعرضها البث المباشر.. طائرات تصطدم بأبراج مركزالتجارة العالمي وسط تصاعد رهيب للدخان والنيران من الطوابق العليا.. ومشاهد مؤلمة لبشر يقفزون من علو شاهق هربا من الحريق والموت.. ثم تتابعت الأنباء عن طائرتان أخرتان أحدهما إصطدمت بوزارة الدفاع الأمريكية ” البنتاجون”.. والأخرى سقطت في مزرعة في ” بنسلفانيا”.. ثم أخذت الأبراج العملاقة في الانهيار والتساقط.
انتابتني لحظات من الذهول حينها.. الولايات المتحدة الأمريكية تضرب في عقر دارها.. كانت الولايات المتحدة الأمريكية تضرب الجميع من قبل في أي مكان وبأية ذريعة دون شرع أو قانون ودون عاقبة تذكر.. والأن تنتقل الحرب إلى عقر دارها.. مخلفة نحو ثلاثة آلاف قتيل.. مفارقة لافتة للإنتباه والتأمل.. وكان التعاطف مع الضحايا ومشاهد محاولات الفرار من الموت تطغى على المشاعر وتولد تيارا جارفا من التعاطف والتضامن.
كانت فرصة ذهبية للساسة والقادة الأمريكيين لإستغلال إلتفاف شعوب العالم وتضامنهم معهم لخلق عالم جديد تسود فيه قواعد العدل والحرية.. لكنه ليس هكذا يسير التاريخ.. فقد وجدها الساسة الأمريكيون فرصة سانحة لشن مزيدا من الحروب والدمار وزيادة مشاعر الكراهية ونمو المزيد من التيارات المتطرفة والإرهاب ( وتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في رعاية الإرهاب يستحق أن نخصص له حديثا مستقلا ).
دارت دورة التاريخ دورتها المعتادة.. وفي تقرير نشر منذ أيام من جامعة ( براون) بالولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان (خلق أزمة اللاجئين – النزوح الذي سببته حروب الولايات المتحدة الأمريكية بعد ١١ سبتمبر ٢٠٠١).. ذكر التقرير أن عدد النازحين واللاجئين من أفغانستان خمسة ملايين وثلاثمائة ألف نسمة.. وعددهم من العراق تسعة ملايين ومائتي ألف نسمة.. وذكر التقرير أرقاما أخرى من دول مختلفة للنازحين واللاجئين ترتبت على الحروب الأمريكية بعد ١١ سبتمبر.. وقال معدو التقرير إن تلك الأرقام ” متحفظة للغاية ويمكن أن تزيد عن ذلك”.. أما عن عدد القتلى والجرحي فلم يهتم أو يبالي بها أحد ويمكن تصور أنها تقدر بالملايين.
ووسط كل هذا التاريخ من الحروب والدمار والدماء ينسى العالم كله تاريخا آخر هو ١١ سبتمبر ١٩٧٣.. في ذلك اليوم رعت الولايات المتحدة الأمريكية وهندست إنقلابا عسكريا في تشيلي بقيادة الجنرال أوجستو بينوشيه ضد الرئيس سلفادور الليندي.. حيث تضررت المصالح الأمريكية، ومصالح شركات الاحتكار بشدة في عهده.. كما أنها خافت من نجاح تجربة اشتراكية تغري باقي الدول بإتباعها في حديقتها الخلفية أمريكا الجنوبية ( تلك التسمية العنصرية التي تطلقها الولايات المتحدة الأمريكية على أمريكا الجنوبية والمعروف أن الحديقة الخلفية مكان مهمل في الغالب يحتفظ البشر فيه بمخلفاتهم وأشيائهم القديمة).
خلف الإنقلاب عشرون ألف قتيلا وآلاف المعتقلين.. وقتل سلفادور الليدي.. و قتل وأعتقل مئات الآلاف غيرهم في طوال عهد بينوشيه.
لكن التاريخ لا يذكر سوي ١١ سبتمبر الأمريكي، ويتجاهل تماما ١١ سبتمبر تشيلي.. ومئات أخرى من جرائم ١١ سبتمبر في كل بقاع الأرض.. وإن اختلفت التواريخ والأماكن والأحداث.. لا تتفق فقط سوي أنها ارتُكبت بيد الولايات المتحدة الأمريكية ومنسية أيضا.

يبدو التاريخ كائن أبيض شديد العنصرية.. يذكر أحداثا وينكر أخرى.. لكن الحقيقة أن التاريخ كائن محايد لا جريرة أو ذنب له.. فالجريمة لا تكتمل سوي بأن غالبية شعوب الأرض لا تقرأ التاريخ ولا تتعلم من دروسه بل وهي في معظمها مؤمنة بالتاريخ الأبيض.. تلك الرواية الرسمية المكتوبة بأيدي الغرب المتحضر.. والتي تكبت وتقصي الرواية المسكوت عنها عن كل معاناة الشعوب المقهورة.

في التذكر عبرة ودرس.. وفي النسيان موت.. ” ولكن آفة حارتنا النسيان” كما حذرنا كاتبنا المبدع ” نجيب محفوظ”.

اقرأ أيضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: الأحلام الموؤدة

محمد قدرى حلاوة يكتب: الضريح

زر الذهاب إلى الأعلى