محمد قدرى حلاوة يكتب: ” صفية “

بيان

تأتي كل يوم في الصباح متأرجحة الخطوة.. لعلها آلام العمود الفقري التي تعاني منها وقد يكون ثقل خطوات العمر والزمان.. جلبابها الأسود يصاحبها خلفها زاحفا.. وقد عصبت رأسها بمنديل أبيض منقوش بالزهور.. عويناتها السميكة متعددة الدوائر تبدو كدوامة بحر سقطت فيها حدقاتها مبتلعة.. ” بكرة أعمل ليزي _ ليزك _ وأركب عنين خضراء” تقول ” صفية ” مبتسمة للناصحين لها بتغيير النظارة.

هي واحدة من ملايين الكادحين الشغيلة.. مرتبها الحكومي كعاملة نظافة لا يكفيها بالطبع.. يمكنها ان تتسول.. “تنجز” المصالح للمترددين على الهيئة مقابل ” الحلاوة”.. لكنها تختار دوما الطريق الصعب.. البحث عن الرزق” الحلال”.. تفتق ذهنها البسيط عن المتاجرة في الأدوات المنزلية الرخيصة .. ” مغرفة”.. ” إناء طهي”.. ” صحاف”.. تلوح من بعيد وهي تجرجر الأكياس السوداء الثقيلة.. لا تفارقها الإبتسامة.. تلقى تحية الصباح على هذا.. تستقبل طرفة من ذاك.. ” تحاسب” أحد ” الزبائن”.. الحساب دائما ” آخر الشهر”.. لا تقسو على من لا يفي بموعد الدفع المقدس.. تقدر الظروف.. هي مثلهم ومنهم ولهم.. الشقاء لم يختصها وحدها.. أظل الجميع.

لا يكدر صفو ابتسامتها أحد.. لولا قلة من الكبراء وذوي النفوذ لا يشترون أدواتها الرخيصة.. ” اللهم إحفظنا.. ربنا يكفينا شرهم”.. دعاء” صفية ” عندما تدخل بقدمها اليمني الهيئة كل صباح.. سبق وأن حذرها أحد المسئولين من بيع بضاعتها في الهيئة وأن ذلك يخالف اللوائح والقوانين.. همست “صفية ” لصديقتها: ” وهوه المرتب اللي بناخده يرضى ربنا.. يلعن أبوه على ابو لوايحه “.

الأيام لا أمان لها.. تصيبك بالسقم والجروح وأنت تقارعها وتبارزها.. من أنت حتى تحاربها؟.. خفوت إبتسامتها ليس عاديا.. شحوب الوجه وهزال الجسد ليست أمورا رتيبة مألوفة .. الشقاء يلتهم صبوة العمر.. يبتلع أيامه.. صارت تقرب الأوراق النقدية من عينيها.. تكاد تلاصق طبقات الزجاج السميكة لعويناتها.. ” أنت متأكد إن دي عشرين جنيه.. إنت وضميرك بقى”.. ذهنها الحاد المتقد وحضور البديهة لاحا يخبوان هما أيضا.. بدأت تنسى ” الحساب”.. تأتي بأدوات معيبة الصناعة.. لا بأس عندها أبدا من رد الثمن.. ” عبد الباسط – تاجر الجملة – مبقاش عنده ضمير.. ولا يمكن مخدش باله”.. ” خدي بالك من صحتك يا “صفية” .. شاكلك مش عاجبني ” قالت أحدهم .. ” سيبيها على الله هآخد قرصين أسبرين وأروق”.

” حد عايز قلاية مبتلزقش “.. لم يرد أحد..” متقلقوش يا جدعان الحساب يجمع”.. لا استجابة مجددا.. العوز والضيق أصابا الجميع.. المأكل.. المشرب.. الملبس.. الإيجار.. الكهرباء.
الأنبوب.. مصاريف المدارس.. رمال ناعمة تبتلع الجميع.. بضاعة” صفية ” يمكن الإستغناء عنها بعض الوقت.. ” قلاية بتلزق ميخسرش.. أحسن ما انا اللي أغرز في الديون ” قال واحد وهو يقهقه.. لم يبتسم أحد.. الكل في شغل شاغل وفي همومهم يرزحون.

خرجت ” صفية ” تجرجر ” أكياسها” الثقيلة.. يزحف خلفها ثوبها الطويل.. أذيال الخيبة وأثقال الزمن.. خسرت معركتها اليوم مع الحياة ولكن لا بأس غدا يوم آخر… حلم آخر.. أمل جديد.. فقط لو تتوقف الحياة عن مبارزتها يوما او بعض يوم.. لو يخبو كدها اللاهب كما يخفت بصرها رويدا رويدا.. كما ينحني عودها أكثر فأكثر.. لا راحة ولا هدأة ولا فيء.. حتى تتوقف عقارب الوقت عن الدوران.

اقرأ أيضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: ” عم إسماعيل

محمد قدرى حلاوة يكتب: العيد ١٩٧٧

زر الذهاب إلى الأعلى