محمد قدرى حلاوة يكتب: العيد ١٩٧٧

بيان

(١)

أيام ويهل ” العيد” بطقوسه وبهجته..صوت ” وابور الجاز” يهدر وقد وضع عليه ” قدر السمن” ينثر في الأجواء رائحته الزكية.. حبات السمسم وهي ” تحمص” آخذة لونها الذهبي.. الجدة تخفق العجين بيدها في حركات متتابعة وقد عصبت رأسها بمنديل أبيض.. تبدو وخيوط العجين ملتصقة بيدها وموصولة بقدره كفنان تشكيلي متأهب لتشكيل” الجص” تمثالا أسطوريا خالدا.

التحذيرات والنهي والتهديد المتتابع لنا من الحرمان من أكل ” الكعك” حال مواصلة التهام أطباق العجمية والعجوة والمكسرات.. سيدات العائلة مجتمعات.. الأم والخالات والعمات.. كل يشكل كرات ” الكعك” و ” الأورص” و ” القراقيش”.. ” مناقيش” الزينة وهي تزين وجه كرات ” العجين” لتوضع بعد ذلك متراصة في ” الصاجات” الفارغة السوداء.. ” الطبشور” الأبيض اللازم لرسم علامة مميزة على ” صاجات” ” كعك” العائلة.

هنا يأتي دورنا المرتقب متأهبين لحمل ” الصاجات” للفرن” الأفرنجي “.. ” خدوا بالكم.. متقعدوش تلعبوا وتسهوا عن الكحك.. أوعوا عم “سيد” يبدل الصاجات.. فيه ناس بتخبزه بسمن هولندي.. متخلوهوش” يقرص” على الكحك قوي علشان مينشفش ويقدد.. ياخد بس لون السوا”.. نصائح الجدة الذهبية لنا قبل التوجه إلى ” الفرن”.

في إنتظار ” الدور ” وسط الزحام الشديد.. نسهو عن الوصية.. هناك مساحة كافية ليلعب بعضنا ” الأولى ” ويبرز الآخرين مهاراتهم في رمي” البلي ” فى الحفرة.. بعد وقت قصير أو طويل لا نبالي ولا نعلم يستدعينا عم ” سيد” بالنداء بصوته الجهوري.

الزمن في البدايات لا أهمية له ولا حساب أو قيمة.. يبدو ممتدا بلا مدى ولا نهاية. تلوح الحياة خالدة أبدية.. نسمع كلمة الموت ولا ندرك كنهها أو معناها.. لا ندرك الفقد والغياب.. ربما لهذا كلما طالبنا الأهل بشراء ساعات اليد كانوا يجيبوننا ” لما تكبروا.. علشان متضعش منكم”.. ترى مالذي كان مهددا بالضياع ساعات اليد أم الوقت والعمر والحياة؟.. لتدرك معني الضياع والفقد يكفي فقط أن تنظر لصورتك صغيرا تضحك بلا مبالاة وتبصر ذاتك في المرآة الآن. أي شئ قد ضاع واختلف؟.. يالا حماقتنا عندما أصررنا على إرتداء الساعات.

قطعة من القماش السميك على الرأس وبعضا منه يحيط اليد والمعصم يكفيان لحمل ” صاجات” الكعك الساخن الطازج.. رائحته الفواحة تغري بالتوقف قليلا لالتهام بعضا منه.. تنظر الجدة لنا بإبتسامة حانية وتقول ” عم سيد ده معندوش ضمير.. عمرنا ما نزلنا الكحك ليه إلا ورجع لنا ناقص”.. ثم تأخذ في مراجعة العلامات على ” الصاجات” وتتشممه لتتأكد من أنه هو ذاته وليس ذلك المنتحل ” بالسمن الهولندي”.
باقي ثلاثة أيام على العيد أو أقل.. نعرف ذلك من بضعة مظاهر بسيطة.. تردد عبارة” هنفوت في الأكل الكام يوم اللي جايين دول.. الواحد مبقلوش نفس في حاجة”.. تردد أغاني ” والله لسه بدري والله يا شهر الصيام” وتواري أغاني ” رمضان جانا” و ” مرحب شهر الصوم مرحب “.. انقطاع وتهدل خيوط الزينة المحملة بالأوراق الملونة.. قلة الحفاوة بالفوانيس والشمع.. تضاؤل الزحام على فرن صنع ” الكنافة ” و ” القطايف ” وامتداد” طابور ” خبز ” الكعك”.. مرور” المسحراتي ” على المنازل لأخذ” الحلاوة”.. تبادل أطباق” الكعك” بين الجيران.. الذهاب إلى محلات ” عمر أفندي” و ” جاتنيو” و ” صيدناوي” و ” ملابس الأهرام” و” بنزايون عدس ريفولي” لشراء ملابس العيد.. لتصدح بعد ذلك أغنية” يا ليلة العيد أنستينا” حاملة البهجة والفرحة بقدومه.

(٢)

سويعات قليلة نقضيها في النوم لنستيقظ باكرا ونرتدي زي العيد ونلوك ” الكعك” مع أكواب الشاي الساخنة.. بعدها نبدأ في المرور على بيوت الأهل والعائلة لأخذ” العيدية “.. كنا أطهارا لا نعرف الخجل.. وكان الأهل يستقبلونا بترحاب مغدقين علينا بالحلوي والكعك والنقود الجديدة.. ” عشرة قروش” ، ” ربع جنيه” ، ” نصف جنيه” ” جنيها كاملا” وكانت الحصيلة عندما تتجاوز جنيهين حدثا سعيدا ينبغي معه الجلوس بهدوء والتفكير العميق كيف ننفق هذا المبلغ الضخم وعلى أي وجه؟.

حان وقت ” المراجيح”.. التحليق صعودا ونزولا والاستعراض ” بالشقلبة” أحيانا.. إلي أن يمد ” عم فتحي ” يده على الفرملة الحديدية الطويلة.. ويحتك قارب السماء بقاعدة ” الكاوتش” معلنا نهاية حلم الطائر في رحلته نحو السماء.. ” الزقازيق” وهي تدور لأعلى وأسفل متمسكين جيدا بمقبض العربة الخشبية.. عربات الكارو والتصفيق مع أغنية” على عليوة ياللي..، “.. وعندما يحين وقت إيجار ” العجل” نبدأ في الاتفاق على مسار الجولة والتسابق أحيانا.. لحظات من الهدوء البدني وإطلاق طلقات المسدسات و ” البمب “.. وقت الغذاء يكون ثقيلا فهو وقت مهدر بلا لعب.. لكن اجتماع العائلة والصخب والضحك والضجيج يضفي ألفة وحبور في النفس لا يترك مجالا للحسرة والأسف.

نظرة واحدة إلى المرآة تكفى لنرى.. الشعر المهوش.. بعض الجروح والخدوش البسيطة.. قطرات الشحم على الملابس الجديدة.. الأتربة والطين تفسد رونق الحذاء الجديد اللامع.. ” صواني” الطعام الممتدة تذهب الجوع ويستغرق المرء في الطعام بنهم شديد.. فيلم عربي ” أبيض وأسود” فى الغالب ” لإسماعيل ياسين” .. ومسرحية كوميدية تثير الضحكات.. وحلقات الكارتون المحببة.

كلما أتى العيد الآن سائلته بالعبارة الأثيرة” بأي حال عدت يا عيد؟”.. مازالت الأغاني ذاتها تتردد.. ألعابنا البدائية تشظت وتطورت وأصبحت ملاهي عملاقة.. ” الكعك ” صار معلبا جاهزا في ” علب” فاخرة – الجميع يؤكد بأنه مصنوع من السمن البلدي.. هش وناعم لا أنكر… لكن جدتي ليست حية لتؤكد الأمر أو تنفيه.. عم سيد ليس حيا هو الأخر لنحترس من مناوراته وألاعيبه ونلقى عليه باللوم والاتهام.. اجتماعات الأصدقاء والعائلة صارت نادرة شحيحة.. فقدنا أشياء كثيرة.. كلما خطونا خطوة للأمام خلّفنا أشياء سقطت منا عبر الطريق.. نلتفت إليها أحيانا.. نتذكرها دائما غير قادرين على استعادتها ولا حتى تمثلها.. لم يعد هناك ” عيدية”.. ألف لعنة على ساعة اليد.. طوقت المعصم وأذهبت الأيام وأضاعتها وخنقت الأحلام.. سحقا لعقارب لا تعود إلى الوراء أبدا.

اقرأ أيضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: “على الربابة”

محمد قدرى حلاوة يكتب: حنين

زر الذهاب إلى الأعلى