محمد قدرى حلاوة يكتب: مخاوف

بيان

غرفة غامضة تقبع فوق ” الحمام”.. ” السندرة” *.. باب خشبي صغير عال لا تطاله اليد محكوما بقفل حديدي كبير.. الدهان الأخضر الزيتي “مقشر” من الأجناب.. وهالة من السواد والسخام تحيط ببابها الصغير.. يبدو أنها تكونت من أدخنة ” الوابور” الذي يظل يهدر بلا توقف يوم ” الغسيل”.

آثار الزمن كللتها بغموض ورهبة وجلال جعلتها تبدو مثل وجه الشيخ العجوز المحفور بالتجاعيد.. غريب ذلك الزمن وآثاره القادرة على التعدي على وجه البشر والحجر.. خلت أنها قديمة قدم العصور العتيقة.. كأنها وجدت من سحيق قبل وجود المنزل ذاته.

طبقات الطلاء “المقشر ” و الظلال رسمت على ” الإسمنت” وجوه غريبة وأشكال لحيوانات خرافية لها ألف ألف ذراع.. تملكني الإيمان منذ الصغر أنها بيت ” العفاريت”.. كانت حكايات الجدة عن “الغول” تؤكد ذلك الإيمان وترسخه.. لابد أن هذا هو بيته الملئ ببقايا البشر وعظامهم بعد أن انتهي من إلتهامهم.

صوت حركة الهواء والرياح وصرير وصكيك الباب الصغير تؤكد كل مخاوفي.. كأن ” العفاريت” و ” الغيلان” تحاول تحطيم ” القفل ” والخروج من معقلها وسجنها.

كنت أحكم الغطاء على رأسي متمتما بما تيسر لي حفظه من الآيات والأدعية.. ألهث.. أتعرق.. تتسارع دقات القلب الصغير ونبضاته.. أغفو في إنتظار خيوط الشمس المتسللة من خلف النافذة.. ” العفاريت ” تنام في النهار.. هكذا كنت أخال .

دور من” الحصبة”.. معزولا في غرفتي.. مدسوسا في الأغطية الثقيلة.. لا يبدو مني سوي نصف وجهي.. الجلد منقوش بالحبوب الحمراء.. والجسد محموم ملتهب.. ” الترمومتر” الزجاجي مدفون تحت اللسان.

يااااه !!.. درجة الحرارة تسعة وثلاثون ونصف.. اعملوا له كمادات”.. صاح الطبيب وهو يمسح طرف” الترمومتر” بقطعة من القطن مبللة بالكحول.. واضعا إياه في ” طبق” من المعدن.. جلس على مقعده وعويناته السميكة تغطي نصف وجهه وأخذ يخط بقلم” حبر ” بعض الأدوية الموصوفة.. الدواء دائما كالعلقم.. مذاق مر لاذع.. لكنه شاف على أية حال..” يمشي على العلاج ده أسبوع.. وييجي لي تاني أشوفه”.. قالها الطبيب وهو يضع يده على جبهتي بشفقة مرة أخرى.

” رقيتك وأسترقيتك من عين الحسود.. ومن عين فلان.. وفلان..” قالت الجدة وهي تضع يدها اليمني على جبيني بينما تخز سن ” الإبرة” الكبيرة في ” العروسة” الورقية كلما ذكرت اسما أو صفة..” رقيتك من عين الشيطان ومن عين كل إنس وجان.. ومن عين كل اللي شافك ومصلاش على النبي”.. ختمت الجدة رقيتها ثم أشعلت عودا من الثقاب في جسد” العروسة ” الورقية.. تناولت السخام ومسحت به جبيني.. قطعة صغيرة من ” العروسة ” لم تحترق.. لابد أنها عين” فلان”.

” دلوقتي تخف وتقوم وتبقى زي الحصان “.. قالتها بثقة وهي تزيح زجاجات الدواء بعد أن قدمت العلاج الناجع.. هل يكون سبب المرض عين الشيطان أو الجان كما قالت؟.. هل أفلت أحدهم من باب ” السندرة” المغلق؟.. المخاوف تتأكد كل وقت وآن وحين.

فجأة سقط ” زياد” على الأرض.. تخشب جسده وأخذ يتلوي مصدرا صوت تآوهات غريبة.. فمه يرغي ويزبد ويسيل خيطا رفيعا من الدماء على وجنته اليسرى.. ” فيه جن لابسه”.. قال أحد العالمين ببواطن الأمور.. ” روحوا بيه للشيخ حسن ده سره باتع”.. هذا ” الجان” اللعين الذي يطاردني في كل مكان ويفسد يومي وصحبتي.

هل نجحت ” العفاريت” فى تحطيم باب ” سندرة” منزل ” زياد” ؟.. من المؤكد أنها انطلقت من عقالها وحطمت الأصفاد وتلبسته.. عدت إلى المنزل ونظرت إلى الأعلى خلسة للتيقن من أن باب” السندرة ” المتهالك لم يتهاوي بعد.

” النقاش” و ” النجار” ينشطان الآن في تجديد المنزل.. ” قفل” و ” مفصلات ” جديدة لباب الجحيم المصفد يحكمانه ويغلقانه للأبد.

الطلاء المتآكل يقطب ويكتسب طبقة جديدة تخفي الوجوه المرتسمة بالرعب.. كل شئ صار على ما يرام.. لا صرير ولا إصطكاك ولا وجوه تترقب وتتبدل وتطيل النظر.. يمكنني الآن أن أنام بلا خوف.. لكن لا بأس من الغطاء وبعض الحذر.. قد تنجح ” العفاريت” فى تحطيم سجنها وتنطلق لتنتقم.. من يدري؟.. ألم يكرر الكبار التحذير والتنبيه مرارا من محاولة الصعود إلى ” السندرة”؟..

(*) ” السندرة” حيز كان يوجد في البيوت القديمة كجزء من البناء فوق إحدى الغرف أو المرافق لتخزين الأشياء القديمة أو المواد الغذائية.

اقرأ أيضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: « شالله يا ست »

محمد قدرى حلاوة يكتب: الزائر الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى