محمد قدرى حلاوة يكتب: « سكسونيا »

بيان

صوت يجهر كل صباح ” سكسونيا.. كل حاجة قديمة للبيع”.. أهرع نحو خصاص النافذة مختلسا النظر مرهفا السمع.. يمضي عم ” هريدي” بخطوات وئيدة جائلا ببصره نحو الأعلى.. وقد حمل فوق عمامته قفصا خشبيا كبيرا تكدست فوقه في غير نظام الأغراض البلاستيكية العديدة.. ” طشت”.. “جردل”.. “أطباق”.. ” سبت “.. الخ.. يمكنك أن تضبط عقارب الساعة تماما مع نبرات صوته.. الثامنة صباحا إلا خمس دقائق.. بينما صوت ” فؤاد المهندس” يتصاعد من موجات الأثير “كلمتين وبس”..

“أندهه بسرعة”.. صاحت الجدة.. صعد عم ” هريدي” درجات السلم ببطء.. لاح أمامي بجلبابه الأسود المترب وقفطانه المثقوب وقامته الفارعة وتغضنات وجهه.. اعترف أن الخوف قد تملكني للحظات.. إلا أن ملامحه الطيبة وهزاله البادي وثقل حمله سرعان ما أحال ذلك الشعور نحو التعاطف وربما الإشفاق.

تمت عملية المبادلة سريعا.. بضعة ملابس قديمة مقابل ” سبت” أصفر اللون.. كان يشكو من خسارته في المبادلة.. بينما ” الجدة” تقنعه في حسم بأنه ” ربحان بالزيادة”.. بينما أراقب في أسف قميصي الأبيض الممزق الجوانب وقد أنتقل مفارقا نحو يده الي الأبد.

علمت أن تلك الملابس القديمة التي يبادل بها عم ” هريدي” تعرف طريقها الي سوق الملابس المستعملة (سوق الكانتو).. ربما يجد فيها، من هو أكثر احتياجا دثارا له من البرد أو سترا له من العري.

أخذت أفكر في قميصي الراحل وقد رسم عليه ” ميكي ماوس” يضرب بمضربه كرة ” الجولف” التي يبدو أنها ذهبت بعيدا جدا .. تماما كردائي المغادر.. أخبرتني جدتي بذلك وهي منهمكة في شد وعقد “الحبل” في يد ” السبت” الجديد.

أكثر من شتاء وصيف مروا مابين ربيع وخريف.. لم يعد عم ” هريدي” مثل تروس الساعة المنضبطة.. شاخت عقاربه أكثر فأكثر.. ” كلمتين وبس ” يتكرر كل يوم بينما يختفي هو – عم هريدي – أياما وأسابيع.

ثقل حمله بكيس جديد من ” الخيش” وتباطأت خطواته أكثر فأكثر.. وهنت نبرات صيحته.. وبدت عيناه فجوة صغيرة بين خطوط التجاعيد.

في مبادلة أخرى أشتكي بمرارة من “بور سعيد اللي خربت بيتهم”.. “بيقولوا انفتاح ومدينة حرة.. بقوا بيجيبوا يا حاجة الهدوم أكوام أكوام من بلاد الله.. خلق الله ( البالات).. محدش عارف أصلها ولا فصلها.. الشغلانة مبقتش بتأكل عيش”.

غادر بكومة الملابس مرضيا تلك المرة.. يبدو أن الجدة الحنونة قد تأثرت بكلامه.. كنت أبحر بمراكبي الورقية بين المياه التي غمرت ” الطشت الأزرق البلاستيكي”.. “متقعدش على البلاط وتبل هدومك.. الدنيا شتا وأنت لسه قايم من دور الكحة “.. مضت تحذيرات الجدة ممتزجة بصوت يأتي من بعيد “كل حاجة قديمة للبيع”.

اقرأ أيضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: مخاوف

محمد قدرى حلاوة يكتب: « شالله يا ست »

زر الذهاب إلى الأعلى