محمد قدرى حلاوة يكتب: « البيادق »

بيان

(١)

وقفت كل قطعة على الموضع المخصص لها في الرقعة.. لم ينكف ” الملك” في الخلف عن إلقاء الخطب الحماسية.. فرق الموسيقى تقرع الطبول والدفوف بينما أخذ المنشدين يجهرون بالأغاني والأناشيد الوطنية .. ” الملك” ينظر لساعته في تململ ويتثاءب.. لحظات وتبدأ المعركة.. أرسل – الملك – “” الحصان ” ليتفقد دفاعاته… خاف – الملك – أن يتقدم فيصيبه سهم طائش أو رمية رمح راشقة.. أخذ يحكم التاج حول رأسه.. وتوقف العزف والغناء فجأة.. و ” الملك” يرفع بيده بالصولجان صائحا هجوووووم.

صدر الأمر” للبيدق ” الأوسط بالكر.. تقدم” البيدق” خطوة واحدة نحو الأمام.. هو شجاع مغامر يقف في الصفوف الأولى.. يستطيع أن يقتحم خطوط العدو ويصل إلى” الملك” الآخر في عرينه.. لكنها قواعد اللعبة اللعينة.. يحق له التقدم للأمام خطوة واحدة.. زحام من ” البيادق” المعادية أمامه.. تحمي خطوط القادة والأمراء والملك في الجيش المعادي.. تقدموا هم الآخرين .

تلقى “البيدق” الأمر بالتقدم مجددا حاول مناقشة ” الحصان” ” ولكن تقدمي يعني الموت لا قطع تحميني”.. ربت ” الفيل” على كتفيه قائلا: ” كلنا فداء الوطن.. فداء الملك تضحيتك ستفسح الطريق للطابية لتقتحم حصون العدو”.. سيخلد الوطن اسمك.. ستصبح علما للتضحية والفداء في أسفار التاريخ.. تذكر صنوك في الحرب السالفة.. اسمه يزين أكبر ميادين العاصمة”.. نسي أن يقول له إن تلك اللافتة الزرقاء الباهتة التي كانت تحمل إسم سلفه قد تمت إزالتها في عملية توسعة للميدان وتغير اسمه بعد ولادة ولي العهد إلى ” ميدان العهد الجديد.. حتى معاشه قد تم تخفيضه.. كان موسم جفاف وقحط.. علي الورثة التضحية هم الآخرون.. ما أعظم التضحية من أجل الوطن!!..

ودع ” البيدق” زملاؤه وحمل سيفه متأهبا للنزال” ألم يكن من الأفضل أن يقفز ” الحصان ” على الهدف قفزة واحدة ليفتح الثغرات في خطوط الأعداء.. لا شئ يهدد حياته – الحصان – .. ولا خطر يترصده.. لكن ” الملك ” يريده بجواره.. يخشى من الخيانة.. لماذا يضحون به هكذا ؟.. أي خطة حمقاء تلقى به في التهلكة؟.. ” ملك” أخرق مغرور يصدر الأوامر ويضع الخطط.. ثم من سيواجه ويقتل؟.. ظلت التساؤلات الصارخة تتزاحم في ذهنه

” بيدق” آخر من الأعداء لا حيلة له من أمره شيئا مثله يواجهه ويشهر سيفه في وجهه .. أي حرب ظالمة تلك التي وضعتهم في المواجهة وقيدت حركتهم من أجل أن يحيا ” ملك” جبان يحتمي هناك في آخر الخطوط.. لكنها الأوامر لا يستطيع مخالفتها.. يالها من فكرة خرقاء تراوده أن يضحي القادة بأنفسهم على مذبح الفداء.. وهل من حياة للوطن لولا حكمتهم وحنكتهم؟.

منذ متى صار خائفا مديرا هكذا؟.. لابد أنه الشيطان الذي يزين لنا دائما حب الحياة.. عليه أن يقهره بشجاعته المعهودة.. يرد دين الوطن.. ينفذ أمر ” الملك”.. الوطن و ” الملك”.. يتماهيان أكثر فأكثر.. يتطابقان.. يصبحان وجهي العملة.. على أي وجه تسقط – العملة – الأمر لا يهم.. المعنيان تزاوجا معنا واحدا.. خالدا.. الوطن هو ” الملك” و ” الملك” هو الوطن “.

” يحيا الملك.. المجد للوطن “.. كانت آخر كلماته.. سقط ممدا على الرقعة.. وجهه يبتسم.. وإن كانت دمعة قد ظلت مسجونة في مقلتيه لم تفر بعد.. معلقة كالسؤال الحائر: ولماذا لا يحيا” الملك ” و ” الوطن ” و ” نحن ” أيضا؟.. أي أوطان تلك التي تفرض علينا الموت لتحيا هي؟.. هل لها وجود من دوننا؟.. نحن الزارعون البنائون الصانعون.. الوطن قفر يباب من دون أبناءه.. صنم متحجر بلا روح أو ضمير .. بقعة جغرافية صماء جامدة.. لم لا يحنو علينا فوق التراب كما يضمنا ويحتضننا عندما نرقد تحته؟.

(٢)

لم يتوقف أحد أو يحزن كثيرا على تلك ” البيادق” العابرة كالهامش في المتن .. ” الملك” في الخلف لا يغادر محله محتميا ” بحصانه ” و ” فيله” وطابيته ” و ” وزيره “.. هو لا شئ بدونهم.. وهم آمنون في الخلف من حوله بعيدا عن لهيب المعركة.. موتهم فيه اقتراب أجله.. وموته لا يكون سوي بعد موتهم جميعا.. في تلك اللعبة الجميع يحمي الجميع.. والكل يخشى الكل.. ولا يمكن لأي أحد كشف خطوط الآخر.. ترك ظهره عاريا..

هم يحتقرونه – الملك – في أعماق نفوسهم.. يبغضونه ويعلمون جبنه وخسته.. لكنها علاقة المصير والمآل.. تلك هي قواعد اللعبة الحمقاء.. خيانة ” الفيل” ” للحصان” في الحرب الأخيرة ماثلة أمام الجميع.. الدعاية حولتها لقصة بطولة أسطورية ” للحصان” المقدام.. القطع البيضاء تتحسر على” الحصان” الشجاع الذي خاض الغمار تقتيلا في صفوف القطع السوداء.. وتلك الأخيرة بعد خيانة مماثلة في صفوفها تتذكر بالفخر والمجد كيف تصدت له ” الطابية ” مضحية بذاتها وقدمت روحها فداء.

لكن كتب ” اللعبة” لا تذكر هؤلاء.. تذكر فقط ” الملك” المنتصر.. تعلم الآخرين كيفية حمايته.. في موته نهاية اللعبة واللاعبين وطوي الرقعة كلها.. ظلت الحرب مستعرة والقطع تموت على مذبح قرارات ” الملوك “.. نظر ” الوزير” الأسود لملكه قبل موته وقال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ” كنت أحق بالملك منك.. أنا الخائض في صفوف الأعداء.. أنا الحامي لك من الموت الذليل.. خطوة واحدة منك كانت كفيلة بحمايتي يالالك من خامل رعديد!!.. لكنك أنت من ترتدي التاج.. كلنا فداؤك.. أي قسمة ظالمة تلك”؟!.

استمرت المعركة ساعات طوال وكثرت الضحايا.. لم يبق بكل جيش سوي ” بيدق” وحيد يرافق ” الملك”.. ” الترقية ” صعبة بعض الشئ و ” الملكان” يشعران بالإجهاد والتوتر من طول المعركة .. ومضت في ذهنهما فكرة طارئة.. ولماذا لا نحيا معا؟.. هل يتحتم ان يقتل – يكش – كل منا الآخر؟.. يبدو أن الأمر لم يقتصر على الخاطر والبال.. يقول الرواة ان هناك محادثات سرية قد جرت بينهما.. كان العائق الوحيد هما هذان ” البيدقان ” اللعينان.. وجودهما يعني استمرار اللعبة.. بقاء الصراع.. صدرت الأوامر ” للبيدق” الأبيض للتقدم والتضحية بذاته.. نظر إلى ” الملك” مذهولا وتسائل منحني الرأس ” ما جدوى التضحية مولاي.. أنا محاط بك.. لا يستطيع الملك الأسود الوصول إلى.. الحرب تقترب من نهايتها مازالت أمامنا فرصة للنصر والنجاة.. “.. نظر ” الملك الأبيض” له بحنق وغضب آمرا إياه بالتقدم خطوة.. أغمض ” البيدق” عينيه متمتما ببعض الأقوال المقدسة والأغاني الوطنية ترن في أذنيه .. تذكر أهله وأصدقاؤه.. بالتأكيد سيحزنون عليه بعض الوقت.. لكنهم سينالون المجد والتكريم يقينا من” الملك “.

صار في مرمى رماح ” البيدق” الأسود.. الذي، تقدم إليه وقد بدت على ملامحه آمارات الشراسة والانتقام.. كان يتذكر ضحاياه – البيدق الأبيض – من ” البيادق” السود زملائه .. طعنه وطوحه أرضا بلا هوادة او رحمة.. شعر بالحبور والظفر وهو يراه يرقد صريعا بلا حراك.. الإنتقام شهوة مقيتة تخرج أسوأ ما فينا ..تصور القضاء على حياة الآخر شجاعة وبطولة.

نظر ” للملك” الأسود وهو يمسح عرقه نظرة زهو وفخر وإنتصار.. لكن وجه ” الملك” كان عابسا.. فوجئ به يوله دبره ويبتعد رويدا رويدا عنه بينما ” الملك” الأبيض يقترب نحوه بخطي حثيثة.. صاح بأعلى صوته ” أيها الملك اللعين الخائن.. قتلتنا جميعا من أجل مجدك الزائف.. والآن تتركني وحدي أواجه مصيري.. سأقتلك شر قتلة”.. حاول التحرك للخلف لكنه وجد قدمه مقيدة.. اللعبة تسمح له بالتقدم للأمام فقط..بالتضحية من أجل” الملك” لا أن يناوءه ويقتص منه… وبينما هو يحاول محاولته اليائسة تلقى ضربة قاتلة من ” الملك” الأبيض وسقط مضرجا في دماءه.

تصافح” الملكان “.. جلسا على مائدة ملكية فاخرة يلتهمان قطع لحم الضأن المشوي.. تبادلا الأنخاب وعبارات المجاملة: ” لقد ابليتم بلاء حسن سيدي “..” لكم أن تفخروا بجنودكم وفرسانكم الشجعان”.. ” سيكتب التاريخ بحروف من نور تضحيات جيشينا”.. النهاية كانت ” التعادل”.. بينما جموع الجماهير البيضاء والسوداء تهتف من حول الرقعة كل لمليكها: ” يحيا الملك.. يحيا الملك.

“.. وكانت الرقعة تتلألأ متأهبة لإستقبال لقاء” الملوك ” العظام.. بعد أن أزيل من على مربعاتها آثار الدماء والأعضاء وأجساد البيادق والقطع الصريعة الأخرى.. مربعاتها – الرقعة – بيضاء وسوداء مثلهم.. لكن لا أثر يدل على أنهم مروا من هنا.. لا أشلاء ولا رفات.. فقط ” الملك” يقف منتصبا شامخا يتلألأ تاجه في ضوء الشمس المنعكس.. يلقى خطابا حماسيا وسط هتافات الجماهير.. والرواة يدونون الكلمات بحماس شديد عل القادمون يعرفون حكمة وجسارة وبلاغة ” الملك”.

اقرأ أيضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: « سكسونيا »

محمد قدرى حلاوة يكتب: مخاوف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى