محمد قدرى حلاوة يكتب: زجاجة العطر  

بيان

(١)

” الخديوي حسن”.. لا أتذكر الآن من أطلق عليه هذا الاسم.. وإن كنت أراه مناسبا تماما.. ربما لوقار هيئته وهيبته اللافتة.. وقد يكون لمكانة عائلته المرموقة.. محتمل عودته (اللقب) لذوقه النادر في الموسيقى والملبس والعطور.

المهم أن الاسم كان لائقا وواصفا للحال بدقة.. كان معتدل الجسد والقوام.. حليق الذقن دائما.. كث الشارب يغطي شفتيه.. تبدو نظرات عينيه نافذة تشع بالذكاء.. طلاوة حديثه ورزانته تكملان حسن طلته.. وتزيدانه رونقا وبهاء.. لم يبق له سوي أن يتمنطق السيف ويعتمر ” الطربوش” حتى يتجسد ” الخديوي” لقبا ووصفا وجسدا وحقيقة..

أهل علينا بأناقته المعهودة .. البنطال الجينز بماركته الشهيرة.. والقميص الفرنسي بخطوطه الدقيقة… والحذاء الإنجليزي اللامع الوقور.. تفوح رائحة عطر نافذ ساحر منه.. عندما سألناه عنه أخرج زجاجة صغيرة خضراء من جيبه ومنح أكفنا الممدودة بضعة نفثات منها.. قال ” دي بروت .. الإزازه الصغيرة دي بجنيه.. بس حلوة قوي ومبتروحش ريحتها من الهدوم.. جربوها هتعجبكم “.. وكان مبلغا كبيرا حينها.. لكنه يهون أمام تلك الرائحة الساحرة.. وصارت رائحتي المفضلة من حينها.

كان بارعا في لعب الكرة.. ينظر دوما للأسفل.. نادرا ما يرفع بصره.. رغم ذلك كان يمررها بدقة متناهية.. يراوغ بمهارة..
مر من بيننا ببراعة نادرة.. ركل الكرة بقوة فمرقت ملاصقة لقالب الحجر ” العارضة” محرزا هدفا رائعا وسط تصفيق الزملاء.. ماهرا في قياس المسافة والأبعاد.. أطمئن حين سكنت كرته المرمى وشخص ببصره عاليا في لفتة نادرة يسلم على زملائه المهنئين.. وقد ندت عن قسماته ابتسامة خجل وقور حجبها عن الأنظار شاربه الغزير.

هو القارئ النهم دوما.. يلتهم الكتب التهاما.. يخط بالحواف بضعة هوامش بقلم رصاص مسنون وبجلاء خطاط حاذق.. لم تكن بضعة هوامش عابرة.. يمكنك أن تقول إنها مقارنة أو نقد أو تفنيد لما يقرأ . كان يقول لنا دائما لا تصدقوا كل ما تقرأون.. ولا سيما في السياسة والتاريخ والعلوم الإنسانية.. ” لا وجود لأحكام مطلقة.. كلها وجهات نظر وانتقاءات ترتبط بميول وانتماء وعلاقات ومصالح كاتبها”.. ما لبث يردد تلك الجملة الأثيرة.

درس الهندسة.. تفوق فيها ولم يحبها.. النظريات والأرقام والمعادلات والمنحنيات.. أشياء قد تكون منطقية بديهية.. هو أبعد ما يكون عن الميل للنتائج الحاسمة.. يبحث دوما عن الخلاص بين دفات الفلاسفة والمؤرخين والرواة.. متفوق في الدراسة نعم.. محب ومؤمن بها لا وألف لا.. وما الحياة سوي بحث وسعي دؤوب نحو الحقيقة الإنسانية المراوغة.. لا حقيقة نهائية في ذلك الكون الرحيب.

لم أره منذ ثلاثين عاما ونيف.. منذ تخرجه من الجامعة سافر في بعثة إلى أوروبا.. واستقر به الحال هناك.. لم يتزوج.. وإن كان هذا لم يمنعه من أن يحب ” ليزا” تلك الفتاة الإيطالية المبهرة.. يحكي عنها حديث العاشق المتيم.. صورها المعلقة في أركان الحجرة تشي بذلك أيضا.. أينما ولي وجهه يمكنه رؤيتها.

” كانت اجتماع الحياة في بدن.. النماء والحياة يتراقصان كأعواد النبات.. ذلك خضار عينيها.. سنابل القمح الزاهية.. تلك هي خصلات شعرها السابح في الفضاء.. خطوتها الرشيقة وإهتزاز الجسد.. إنها أمواج البحر الهادرة الغامرة.. حروف الموسيقى وشجنها.. و هل فن الموسيقى ماهو سوي بضعة كلمات تنطلق من شفتيها؟ ألم أقل لك إنها الحياة.. كل الحياة..”..كان يردد ذلك في إيمان وتبتل شديدين.

كيف تخبو جذوة الحياة النابضة تلك؟.. سمعت أنه مريض.. مريض بشدة.. يقولون أنه في النزع الأخير.. قال الحكيم لا جدوى من” الكيماوي ” سوي مزيدا من الألم والعذاب.. بضعة مسكنات قوية قد تخفف الألم الرهيب..” يأكل ويشرب كل اللي نفسه فيه “.. هؤلاء الحكماء الحمقي لماذا لا يقولون تلك الجملة سوي في الرمق الأخير؟.. في الخطوات النهائية؟.. ألا يصح قولها في زهوة الحياة وغمرتها؟.. لابد من زيارته.. لا مناص.. أفر دوما من رؤية المودعين لصفحة الحياة.. أخشى أن تتبدل صورتهم الناضرة الفتية في عيناي .. لكنه لا مفر من ذلك الواجب الثقيل.. وداع من نحب إلى ما لا نحب.. إلي اللاعودة.. نحو الانتقال من محيط البصر إلى غمر الذكريات.

(٢)

كان يرقد على فراشه مستلقيا وقد أسند ظهره إلى خلفية الفراش يتوسطها بضعة وسائد بدت حشوات القطن العطن من حوافها وكأنها تنازع للفرار.. يرتدي ” روب” صوفي انتثرت على جنباته الثقوب.. بعضها بفعل ” العتة” والأخرى نتاج تغلغل حرق السجائر في النسيج.. قبعة ذات أذنين على الرأس.. تدثر بغطاء ثقيل وبرز من تحته يداه في قفاز جلدي يكلل الفراء حوافه.

بدت عينيه الذكية المتيقظة من خلف عويناته كأنها الشئ الوحيد الذي نجا من آثار الزمن وتقلباته.. ذقنه الحليق لاح مهملا الآن وقد ندت من مسامه الشعيرات البيضاء نامية كعشب الأرض اليابس.. شاربه الغزير كما هو مطبق على شفتيه.. ينتصب بجواره مقعدين احتلتهما ملابسه المكدسة في حالة من الفوضى العارمة.. بضعة جوارب وأحذية متسخة ملقاة هنا وهناك.. أكداسا من الكتب والجرائد قائمة في أركان الغرفة.. الراديو يبث سيمفونيات ” بيتهوفن” و ” موتسارت”.. على” الكومود” تكومت شرائط وزجاجات الدواء ومنبه عتيق مازالت دقاته واضحة منذرة.. أمام المرآة تتراص قوارير فارغة لا حصر لها عطر ” بروت ” الأثير يتدلي من عنقها تلك الحلية الفضية المعهودة . الشباك الخشبي مواربا يتسلل من خلاله شعاع الشمس يرسم مثلثا ذهبيا على البساط البالي يتخلله بعض الظلال.

اندهشت عندما رأيت السيجارة في يده وقد تدلي منها غبارها ساقطا على الفراش والدخان يملأ الحجرة والمنفضة متكدسة بالأعقاب تكاد تنفجر.

كان يقول أثناء نوبات السعال الحادة أنه يعرف أنها مسألة وقت يسير وينتهي كل شئ.. قال الأطباء أن المرض تغلغل وانتشر في كل الجسد المنهك.. لا بأس إذا من متعة الدخان السارب في الهواء كالعمر المتبدد بددا.. لا يطيل الأجل شيئا ولا يقصر منه.. وخصوصا عندما يصبح الموت شاخصا أمامك مادا ذراعيه.. يسلبك أنفاسك الأخيرة.

كان هو مثلما هو تماما.. لم تمر عليه الأعوام والأيام تدهس وتعبر.. حديثه العقل.. منطقه جلي.. كلماته محددة هادئة.. مخارج حروفه منضبطة.. برهانه سائغ ونافذ.. لا شئ قد تغير لولا عظام وجنتيه البارزتين وجسده الذاوي.. لولا كل تلك الفوضى والذبول البادي على ملامحه.

ما أقسى أن تتآكل حنايا الجسد والحشا وهيكلك مازال قائما صلبا.. تذوي شعلة الروح والحياة شيئا فشيئا.. تماما كفتيل الشمعة المنصهرة المتراقص في عصف الهواء.. خيط رفيع من الدخان يرتفع بعد الانطفاء الأخير.. ثم لا يبقى من أثر الحريق شيئا مذكورا.

حدث المقدور بعد أسابيع قليلة.. شيعه نفر قليل نحو سكناه الأخير.. يتحدثون أن ” النعش كان بيجري”.. وأن المصلين عليه بلغوا رقما مهولا رغم الإجراءات الإحترازية.. وورى جسده الضئيل التراب.. هل عطروه بعطره الأثير ” بروت ” ؟.. هل اصطحب معه صور ” ليزا” أم تركها معلقة على الجدران الهرمة من ” نشع” الماء؟.. مات ” الخديوي حسن”.. ومازالت رائحة عطره تنز من الزجاجة الخضراء الصغيرة المطوقة بالعقد الفضي.. وعبق ذكراه عالقة بالذهن بعد.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى