د. قاسم المحبشى يكتب: إعادة صياغة العلاقة بين الشرق والغرب
تفتح مجلة مثاقفات أفاقا واعدة في إعادة صياغة العلاقة بين الشرق والغرب على أسس عقلانية وأكاديمية إنسانية جديدة بما يعزز من قيم التسامح والتعايش والتفاهم والحوار بين الشعوب والثقافات والحضارات والأديان، بعد أن تحطمت الحواجز والحدود التي كانت في الماضي القريب تفصل بينها؛ بفضل ثورة المعلومات والاتصالات، في عالم بات شديد الانكماش والترابط والتداخل. إذ مع العولمة بأفقها الإنساني، لم تعد عبارة (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) جديرة بالمعنى والاعتبار، كما ساد الاعتقاد ذات يوم! بل أضحى التلاقي والترابط والتمازج والتأثير والتأثر بين جميع الجهات من ضرورات تدبير الحياة المشتركة في عالمنا الإنساني الراهن.
والاستشراق والاستغراب بموصفهما حصيلة خبرة تاريخية متراكمة لشبكة واسعة من الممارسات والعلاقات الثقافية والحضارية والمدنية، بين شعوب وحضارات الشرق والغرب، بين الأنا والآخر، بين نحن وهم؛ علاقات نمت وتطورت عبر التاريخ في مسارات متقاطعة من الفهم وسوء الفهم، والشدة واللين، والحوار والصدام، والسلم والحرب، والندية والتبعية، والتكافؤ والهيمنة، والقوة والضعف، والتحدي والاستجابة، وغير ذلك من تجليات التوتر والاضطراب في جدل التماس والصراع والحوار بين الشرق والغرب، بين القوة والضعف منذ الاستشراق الأول المحمول على رؤوس الحروف الإغريقية الأكاديمية والاستغراب الأول المحمول على رؤوس الحروف العربية الإسلامية حتى اليوم.
وإذا كان معنى الاستشراق هو الأسلوب الغربي لتعرف الشرق وبحثه ودراسته وفهمه وتصوره وتشكيله واختلاقه وتمثيله وترويضه وإحكام السيطرة عليه وامتلاكه، فإن الاستغراب بوصفه مشروعاً ثقافياً علمياً لمعرفة الغرب وتخيٌله وفهمه وتمثُله وتمثيله “من خلال بنيته المعرفية والثقافية، بوسائل علمية موضوعية ” يختلف عن الاستشراق التقليد ويتفق معه في جمله من النواحي والابعاد القابلة للرصد والمقارنة. فماهي اوجه الاتفاق والافتراق بين الاستغراب الاستشراق؟
في هذا السياق سوف تكون مقاربتنا لموضوع الاستغراب والاستشراق في بعدين: البعد الأبستمولوجي من خلال إعادة فحص ونقد المفاهيم المفتاحية في الاستشراق التقليد والاستغراب الجديد. والبعد التاريخي عبر البحث في رهانات الهيمنة في المعرفة الاستشراقية بالمقارنة مع رهانات المعرفة والتعايش والحوار في المعرفة الاستغرابية.
انطلاقا من الفرضية التي ترى أن المفاهيم عامة والمفاهيم الاستشراقية خاصة لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغات وحسب، بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها التاريخية والاجتماعية الثقافية المشخصة.
ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة، وسياق نمو، وتجربة ممارسة، وعلاقات قوة، وارادة معرفة، ونظام خطاب، ومدونة لغة، وفضاء فكر، وحساسية ثقافة، وحقل تأويل، وشفرة معنى، وأفق تلقي، وآليات فهم.. الخ.
وهكذا تمكن أهل الشرق أخيرا من تمثيل أنفسهم وتمثيل الغرب ذاته ومن قلب أوروبا القديمة. وتلك لحظة يسميها صديقنا الدكتور حاتم الجوهري ما بعد المسألة الأوروبية. إذ كتب قائلا: ” أزمة المسألة الأوربية أنها حاولت ضبط كل تمثلات الوجود البشري حول صراعها المركزي بين جناحيها الماديين العلمانيين، أو ما بين الماركسية والليبرالية، وقدمت تعاليا معرفيا متعجرفا ونافيا للآخر للغاية إزاء كل الثقافات الأخرى وتمثلاتها الثقافية والاجتماعية، وحاولت ليّ عنق معظم الثقافات التابعة لها لتأخذ إما هذا التمثل أو ذاك.
واتسم القرن الماضي بأنه كان قرن ثنائية المركزية الأوربية بامتياز، وأقصد بالثنائية هنا مستوى آخر وهو أثر المسألة الأوربية عن إنتاج فعل ما يولد بدوره رد فعل مضاد له، والمثال الرئيسي لهذه الفكرة هو ظهور حركة الاستعمار كفعل نابع من المسألة الأوربية ثم ظهور رد فعل مضاد لها في حركات التحرر منها، حيث تبلور مثلا مشروع الاستعمار الغربي حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية، ثم ظهور رد الفعل عليه المتمثل في دول ما بعد الاستقلال وأنظمتها الأقرب للعسكرية بعد الحرب ذاتها”.