د. قاسم المحبشى يكتب: الانتشار الثقافي في عالم غير متساوي
ما الذي يحدث للناس حينما يكتشفون حقيقة وضعهم بالمقارنة مع أوضاع الآخرين؛ أشباههم من بني حواء وآدم؟
ذلك هو السؤال المفتاحي لفهم المشهد الحالي في الفضاء الاتصالي الافتراضي وما يعج به من اضطراب شامل في كل مجالات الحياة اليومية.
ففي الأزمنة القديمة، كانت الجماعات تدبر حياتها في بيئاتها المحلية بسلام وقناعة واكتفاء ذاتي ولا تعرف من الدنيا غير واقعها الثقافي المحلي المحدود جغرافيا.
وكلما زاد تواصل الجماعات واحتكاكها مع جماعات أخرى كلما زاد وعيها بذاتها وبالاخرين.
فالآخر هو مرآة الذات لكن مشكلة وعي الذات وفهم الآخرين ليست من البساطة بحيث تنكشف للأنا بذاتها، ولذاتها دون عناء أو جهد يذكر، بل هي عملية شديدة التعقيد وعسيرة الفهم، إذ قد يعيش الناس عشرات أو مئات السنين في بعض الحالات دون أن يتمكنوا من اختراق الحجب والأقنعة التي تحول دون وعيهم لذاتهم وللآخرين.
فالذات إذا ما تركت لذاتها دون خبرة التفاعل والإحتكاك المباشر مع الآخرين تظل عمياء ساذجة وفطرية غير واعية لذاتها وغير مدركة لهويتها التي تميزها عن هوياتهم المختلفة، إذ بأضدادها تتمايز الأشياء.
والطريق الوحيد لتحقيق كشف المحجوب في عمليات الذات والآخر لا يتم إلا بالإحتكاك والتفاعل المتبادل بين الفاعلين الاجتماعيين في أثناء الممارسة الحياتية وتغذيتها الراجعة في سياق تفاعلي مقارن، فرصد الآخرين وتأويلهم هو الوسيلة الممكنة في فهم الذات؛ فالآخر هو دائماً مرآة الذات ومبعث هويتها.
وتاريخ الدين والمعتقدات الأيديولوجية يفسر تلك السيرورة الأنثربولوجية للمجتمعات البشرية من الطوطمية إلى السماوية.
فكل المعتقدات الدينية جاءت استجابة لحاجات الجماعات المحلية إذ كان لكل عشيرة أو قبيلة أو جماعة محلية طوطم ( حيوان، شجرة، وثن، صنم) تقدسها وتعبدها ولم تأت المعتقدات الكلية الا بعد تاريخ طويل من التعارف والاحتكاك بين الجماعات البشرية في العصور الوسطى.
وقد كانت حياة الشعوب وثقافاتها تقليدية متشابهة في كل شيء تقريبا وذلك عبر تلاقح الثقافات وانتشارها في البيئات فبعد اكتشاف اللغة في أحد الثقافات، طورت الثقافات الأخرى أسلوب اللغة كأداة جديدة لاستخدامها كوسيلة تواصل ضمن أفراد الثقافة الواحدة.
حيث تسعى كل فئة إلى تعديل اللغة بشكل يتناسب مع أفضل أسلوب يعبر عن ثقافة هذه الفئة.
فكل الشعوب القديمة استخدمت نفس الأدوات والأساليب والطرق والعادات في تدبير حياتها، النار والقوس والرمح والنشاب والزراعة والحيونات وكل شيء تقريبا.
ويعد الدين أحد أهم العناصر الثقافية المتأثرة بنظرية الانتشار الثقافي، حيث تتبنى أغلب الحضارات المجاورة لبعضها البعض نفس المعتقدات والمبادئ الدينية الأساسية، مع وجود بعض الاختلافات التي تعبر عن خصوصية كل حضارة.
ففي المنطقة العربية انتشرت الأديان السماوية، وكان كل دين مكمل للدين الذي يسبقه مع الاحتفاظ بكثير من التعليمات الدينية بين الحضارة السابقة واللاحقة.
ومن أشهر القصص التي تم انتشارها، هي قصة الخلق التي بدأت بالنبي آدم وزوجته حواء” ومنذ الثورة الصناعية والعلمية الحديثة انشرت في العالم كله أدواتها وأنماطها وقيمها وعاداتها ومؤسساتها وكل شيء تقريبا.
إذ إن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحولاً في العالم، بل أنها تخلق عالمها المجازي أيضاً وتمكن أقمار الإرسال التلفزيوني الصناعية اليوم الناس على طرفي الكوكب من التعرض بانتظام لطائفة واسعة من المحفزات الثقافية.
فالمشاهدون الروس متعلقون بالتمثيليات التلفزيونية الأمريكية وقادة الشرق الأوسط يعتبرون محطة الـ (سي أن أن) مصدراً رئيسياً حتى للمعلومات و الأفكار .
فالموسيقى الأمريكية والأفلام الأمريكية والبرامج التلفزيونية أصبحت شديد الهيمنة ورائجة جداً ومشاهدة جداً حتى إنها توجد في كل مكان على الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة، وهي تؤثر فعلياً في أنماط وحياة وتطلعات كل الأمم.
إذ بات الإعلام الجديد بكل وسائطه المتعددة يمارس تأثيرا فعالا في سلوك الناس وصناعة الأحداث والقرارات وتشكيل الرأي العام والمواقف والاتجاهات الفردية والمجتمعية المدنية والرسمية في عالمنا الراهن بعد انكماش الزمان والمكان الذي اضحى بفضل ثورة المعلومات والاتصال شديد التقارب والتداخل والتواصل والاتصال والترابط والتفاعل وصيرورته قرية كونية صغيرة يتشارك سكانها كل خيراتها وشرورها.
فمن ذا الذي يشاهد العالم ولا يتأثر بما يحدث فيه؟ وحينما تكون الفوارق الحضارية والثقافية والمعيشية بين الشعوب المتفاعلة في ذات اللحظة يحدث الكثير من الاضطراب.