أسماء خليل تكتب: جيل يقتل جيلًا
يُحكي أنه بسالف العصر والأوان، كان هناك جيلٌ سابق لذلك الجيل الحالي، به آباء وأمهات وصفهم اللاحقون بأنهم أكثر صرامة وقسوة، مهما كانوا يمتلكون من أموال كانوا لا يُغدقون على أبنائهم بالأموال، لا يمنحونهم مصروفًا يجعلهم يستقلون سيارة وهم بطريقهم لمدارسهم ومصالحهم، بل يأمرونهم بالسير على أقدامهم.
كانوا يشترون لأبنائهم الملابس فى الأعياد والمناسبات فقط، يطعمونهم بنظام بالتوازن بين ما هو غالي الثمن ورخيص، حتى لو أمتلكوا خزائن الأرض، كانوا يُنفقون ويدخرون، لا يسمحون لأبنائهم باللعب إلا في أوقات محددة، ويوجهونهم بشكل مستمر بالحرص على مستقبلهم وتعليمهم..
كانوا يسمحون لأبنائهم بالتزاور بحساب.. ويتنزهون بنظام.. وينامون ويستيقظون بموعد.. ينهرون أبنائهم إذا ارتكبوا الأخطاء، يُشيرون عليهم باحترام الكبير والصغير وتبجيل الآباء والأعمام والأخوال والأجداد.
يحكي أحدهم من العهود الأولى أنه كان يذهب مع ابنه مسيرة طويلة جدا بالحر القائظ، حتى يبلغ “الكُتَّاب”، وحينما سأله رجل : لماذا تذهب بابنك تلك المسافة في ذلك الجو شديد الحرارة رغم كونك ثريًّا؟!.. قال إنني أربي ابني ولا أجعله مرفها، والسبيل في ذلك أن يعلم أن طلب العلا يتطلب مشقة، فيعتاد أن يحافظ على ما اكتسبه في حياته بعد جد وتعب..
وقد قام هؤلاء القوم بتعليق تلك الحكمة الشهيرة على جدرانهم “اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم”.
فَخَلَفَ من بعدهم خَلْفٌ……
قال لسان حالهم لقد قسا علينا آباؤنا وقاموا بتربيتنا على الحرمان والمنع.. فمنحوا.. منحوا بلا مقابل.. كل شيء.. يعطون أبنائهم مصروفًا بلا حساب بكرةً وعشية دونما مقابل.. يربتون على أكتافهم مُثيبين أو مُخطئين.. يدافعون عنهم في الباطل.. يكسونهم أبهى الثياب حتى لو كانوا مُقترضين.. يُقدمون لهم كل سُبل الترفيه.. ينصرونهم على مُعلميهم.. يتركون لهم أوقاتهم يفعلون بها ما يشاؤون.
منحوهم كل شيء.. اشتروا لهم أجهزة وشاشات مرتفعة الأثمان ولو بالتقسيط ليهدروا وقتهم.. يطعمونهم من خارج المنزل الأهم ما تذهب إليه أنفسهم.. ينامون نهارا ويستيقظون ليلا.. لا يحضرون طابور الصباح.. لا يوجهونهم للمساعدة بالمنزل خوفا عليهم.. أحجموا عن تحفيظهم القرآن خوفا على طفولتهم.. لم يوقظوهم لصلاة الفجر خشية البرد.. جعلوا مبدأهم بالحياة “كلما اشتهيت اشتريت”..
إنه جيل يقتل جيل بسلاحٍ غير مسنون، يقتلونهم بالبطيء، ماذا يفعلون؟!.. كأنما حرمهم آباؤهم من “المخدرات”، فمنحوها لأبنائهم، هل هذا حب؟!.. إنها الشفقة المدمرة والعطف الفتاك!..
أيها اللاحقون.. نظرة للسابقين.. مجرد نظرة.. إنكم تقودون أبناءكم بالتدلل نحو الهاوية.. اجعلوهم مُنتجين بالمجتمع.. يعرفون كيف يعيشون بالحياة.. لا تجعلوهم يصطدمون بالواقع فينتحرون ويقتلون فيما بعد.
لقد كان أنبياء الله على استحقاق بالقصور ورغد العيش، ولكنهم كانوا يمتهنون – منذ صغرهم – أي مهنة مُتخذين شعار “اليد العُليا خير من اليد السفلى”.. لم يجلسوا وهم غلمان بالمنزل جوار أمهاتهم، بل كانوا يساعدون ويعملون، لقد كان سيدنا إدريس خياطًا، وسيدنا إبراهيم – أبو الأنبياء – تاجر أقمشة، وسيدنا نوح نجارا، وكأن سيدنا داوود حدادا، وسيدنا إلياس عمل بالغزل والنسيج، وكأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – راعيا للغنم، وما من نبي إلا ورعي الغنم..
أي الجيلين كان أكثر عطفَا؟!.. أيهما كان أكثر أنانية؟!.. أيهما أكثر تدميرًا للمجتمع؟!.. مازال التحقيق مستمرًّا!.