د. قاسم المحبشى يكتب: في معنى الدهشة الفلسفية وأشياء أخرى (١من٢)
وضعنا فيروس كورونا كوفيد-١٩ في مأزق فلسفي وجودي لا فكاك منه كما يبدو في الأفق القريب. إذ خيَّم الخوف والحزن على الأرض كُلِّها “لقد أضحى الإنسان مهجورًا ومُهدَّدًا في هذا العالم، فالموت بات يحوم على رؤوس جميع سكان الكوكب، ولكن لا عذر للإنسان طالما وهو موجود، تلك الفكرة التي استلهمتها من الفلسفة الوجودية هي التي دفعتني للتفكير في استئناف الدهشة بأم الدنيا منبع الضمير الإنساني والموطن الأول للحضارة البشرية. ولا اعلم إن كانت محاسن الصُّدَف أو سواها هي التي جعلت تفرُّغي العلمي يتصادف مع ظهور هذا الفيروس المجهري الخبيث.
هُنا في قاهرة المُعِز كان عليَّ أن أتدبَّر أمري في ظل شيوع الوباء العالمي، فقرَّرتُ أن أجعل من الحَجْر الصحي فرصة لا محنة. كنتُ وحيدًا في شقتي، فأخذتُ أقلّب أرشيفي فجمعتُ خواطري الشعرية في ثلاثة دواين صغيرة ثم بدأتُ التأمُّل والتفكير في أمِّ العلوم، فتمخَّض عند ميلاد (استئناف الدهشة) فضلًا عن مشروعي الأساسي الذي ما زلتُ أشتغل عليه وهو قلق الوجود والحرية عند الإنسان المعاصر. وبين الفلسفة والأدب علاقة عضوية منذ أسطورة جلجامش التي تُعَدُّ أوَّل نصٍّ أدبيٍّ فلسفيٍّ مُدوَّن في تاريخ الحضارة الإنسانية، إذ تجدر الإشارة إلى أن الأدب والكتابة ليسا مجرد قصة أو قصيدة أو رواية أو مقالة فكرية أو نقدية نقرؤها للمتعة والتسلية ثم نتركها وننساها، بل هي روح الثقافة وسداها، والأدباء والكُتَّاب هُم ألق المدنية وذاكرتها، والثقافة بوصفها ذلك الكل المُركَّب الذي يُشكِّلُ تفكيرنا وخيالنا وسلوكنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا تُعَدُّ الرهان الاستراتيجي لكل تنمية اجتماعية ممكنة، فضلًا عن كونها مصدرًا حيويًّا للإبداع والابتكار وتهذيب وتخصيب القيم الأخلاقية والجمالية الإنسانية وتنمية الذوق العام، وهي مصدر للطاقة والإلهام والتنوع والاختلاف والتسامح ورحابة الأفق والأنوار والتنوير والشعور بالهوية والانتماء وغير ذلك من وظائف الثقافة الحيوية. والأدب بكل اشكاله هو أقدم من الفلسفة، ويُعَدُّ أول نصٍّ مُدَوَّنٍ في تاريخ الكتابة ملحمة جلجامش التي جمعت بين الشعر والأسطورة. ويمكن القول إنَّ الأدب كان له الفضل الأول في تمهيد السبيل للفلسفة عبر الشعر والحكاية والأسطورة. ومن الإلياذية والأوديسَّة اليونانيتين وُلِدَت الأفكار الفلسفية في أثينا القديمة. وفي الشعر العربي من طرفة بن العبد إلى أبي العلا المعرِّي والمتنبي حتى محمود درويش تحضر الفلسفة بكل زخمها الميتافيزيقي؛ فلسفة الحياة والموت والوجود والعدم والحرية والاغتراب والعبث واللامعقول .إلخ من السمات البارزة التي اتسمت بها الفلسفة المعاصرة لاسيَّما الوجودية منها ما عرف بعلاقتها الحميمية بالأدب على خلاف النظم الفلسفية التقنية التقليدية والحديثة، إذ وجدت الوجودية في الأدب بكل فنونه المسرحية، القصة، الرواية، المقال الصحفي، الرسم، وكل وسائل التعبير الممكنة أشكالًا هامة لتوصيل الفكر الفلسفي. أدرك كامو وميروبنتي وسارتر وقبلهم هيدجر ومارسيل، أدركوا ما ينطوي عليه العقل الأدبي من إمكانيات خصبة وغنية من شأنها أن تعينهم في التعبير عن قلقهم الفلسفي الوجودي. ويعود بعض السِرِّ في انتشار وشيوع الوجودية في الوسط الثقافي الأوروبي والأمريكي والعالم أجمع الى ما زخرت به الأعمال الأدبية لسارتر وكامو كالغثيان، والذبابة، ودروب الحرية، والغريب، والطاعون.. من دلالات ميتافيزيقية ومزاج وجودي مشوب. بَيْدَ أنَّ العلاقة بين الوجودية والأدب ليست ذات بُعْدٍ واحد، بل إنَّ الوشائج التي تربطهما أفضت إلى تأثير متبادل بينهما. فإذا كانت الوجودية قد مارست تاثيرًا على الأدب والفن والثقافة المعاصرة، فإنَّ الأدب بدوره أثَّر تاثيرًا كبيرًا على إنضاج وتفتُّق واندياح المزاج والقلق الفلسفي الوجودي في أوروبا منذ القرن التاسع عشر تقريبًا. حيث يمكن القول: إنَّ القلق المحموم بشأن الذات المغتربة بدأ أوَّل ما بدأ في رحاب الأدب الحديث، وذلك مع زيادة وعي الإنسان وإحساسه المتوتر بالذات الفردية محاولًا فهمها. بَيْدَ أنَّ قلق الإنسان الحار لفهم ذاته ليس بالظاهرة الشاملة حتى يومنا هذا، ظاهرة تاريخية حديثة ظهرت في أوروبا بسبب النزعة الفردية، وازدياد مفهوم الإنسان لدى الإنسان، وزيادة وعي الانسان بالحرية وظمأ مقابل للحرية الواقيعة المفقودة. ويرى كامو” أن المسألة مسألة شعور بالذات متزايد الاتساع نشأ لدى الإنسان خلال مغامراته لتأكيد وجوده” وسوف نلاحظ أن الكثير من المشكلات التي اهتم بها كامو وأقرانه – كالذات والاغتراب، والحرية، والموت، والتمرُّد، والقلق . إلخ كانت مثار اهتمام أساطين الأدب الحديث أمثال “شكسبير، غوته، دوستويفسكي، هولدرين.. منذ ردْح طويل من الزمن، ولعل هذا ما حدا بهيدجر أن يكتب كتابًا خاصًّا عن الشاعر الألماني “هولدرين والشعر” مميطًا اللثام عن ما تنطوي عليه أشعاره من روح فلسفية ميتافيزيقية. فإذا كانت صرخة شكسبير على لسان بطل مسرحيته “هاملت” (نكون أو لا نكون) تنصح بتحدِّي العدمية والهجران في عالم غربت عنه الأصنام والآلهة.