تامر الشهاوى يكتب: الشعراوى المختلف عليه

لا شك أن شعب مصر متفرد فى الأرض وهذا التفرد ليس وليد اليوم بل هو وليد تاريخ حضارى عظيم امتد لآلاف السنين، وكانت الأديان سواء الوضعية فى الأزمنة السحيقه أو التشريعات السماوية فيما بعد ضمن المكوّن الرئيسى لعقلية الشعب المصرى.

كما كان لمصر مكانة خاصة فى كل الازمنة الدينية فقد كانت معبراً لرسل وانبياء – عليهم السلام – ومستقراً لرسل وانبياء أخرين – عليهم السلام – فضلاً عن المكانة الخاصة لمصر وشعبها فى جميع الرسالات السماوية، لذا استقر فى الوجدان المصرى منذ قديم الأزل الارتباط بالأديان وأصبح يتحكم فى مشاعر وتصرفات المصريين كمكوّن رئيسى للشخصية المصرية.

وربما كانت عظمة مصر عبر تاريخها السحيق قد جاء ارتباطاً بتلك العلاقة المطردة بين المصريين والأديان فى خليط مدهش بين المآذن والكنائس والمعابد لازالت تشهد حتى اليوم على عظمة والمخزون الحضارى العميق لهذه الامة .

وتابعت وتابع الكثيرون الحملات المكررة على أمام الدعاه الشيخ محمد متولى الشعراوى وواقع الأمر أنا أكتب ليس دفاعاً عن الشعراوى ولكن التصدى للأمور الخلافية يبدو أنه أصبح من مكوناتى الفكرية.

بالطبع نحن لا نقدس الشيخ الشعراوي، فهو بشر يصيب ويخطئ، ويمكن أن تختلف مع بعض فتاواه أو آرائه أو تفسيراته، فلا كهنوت في الإسلام، ولكن أن يتحول هذا الخلاف، إلى هجوم لكل ما تركه الرجل هذا هو الأمر غير المقبول فالرجل هو أمام الدعاة، وفارس اللغة العربية وعاشقها الكبير، وفارس الوسطية والاعتدال في الإسلام، بخطابه السلس الموجه للعامة والبسطاء، والذي مكّنه من شغل موقعه الأثير في قلوبهم، وأحد أبرز أعلام مجددي الخطاب الديني في العصر الحديث.

واذكركم وأذّكر نفسى إن الأزهر الشريف يعتبر أكبر أعمدة القوى الناعمة لمصر وأنها أم الدنيا ليس لأنها غزت العالم عسكريا وإنما بفكر هؤلاء العلماء الأجلاء، والفنانين المحترمين، ولاعب كرة علم العالم السجود لله.

فالطبيعة البشرية القابلة للتطور كما تحدث عنها علماء النفس لها محددات وقد يحدث لها تقلبات باختلاف البيئه والأحداث والثقافة التى تتعرض لها الشخصية.

فعلى سبيل المثال وليس الحصر أن سيد قطب يعد من الأدباء المشهورين فى تاريخ مصر وهو صاحب أسلوب أدبى متميز، وهو الذى اكتشف نجيب محفوظ وتنبأ بمستقبل أدبى باهر له.

وقد كان سيد قطب من تلاميذ العقاد والمقربين له والمدافعين عنه حتى وقعت الجفوة بينهما، وقد مر قطب بمراحل فكرية متعددة فقد كان فى بداياته مع الوفد ثم انتقل إلى الإخوان بعد عودته من أمريكا، وكان يدافع فى بداياته الفكرية عن العلمانية ثم انتقل للدفاع عن الأفكار الإسلامية ثم انتقل لجماعة الإخوان ثم كوّن فصيلا متشددا مستقلا داخلها ليصبح المنظّر الأهم لأكثر الجماعات التكفيرية والجهادية.

ومن أكثر المواقف التى يستشهد بها أعداء الشعراوى أنه ركع لله شكراً فى نكسه ١٩٦٧ – رغم اختلافى بالطبع مع مافعل – إلا أنه كان له رأى دينى فيما فعله فقد كان شديد العداء للأفكار الشيوعية المنتشرة فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر و سجدته كانت وكأنها سجدة شكره لهزيمه الشيوعية وقال: “فرحت أننا لم ننتصر، ونحن في أحضان الشيوعية؛ لأننا لو ُنصِرنا ونحن في أحضان الشيوعية لأُصبنا بفتنة في ديننا” كما سجد لله شكراً بعد انتصار مصر فى حرب السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣ أذاً الأمر ليس متعلقاً – من وجهة نظره – بهزيمة وطنه فى حرب بل بمخاوفه من فتنة الناس بالشيوعية على حساب الشرائع السماوية.

وليس هناك دلالة على مواقف الرجل المعتدلة أصدق من صداقته بالبابا شنودة حتى أن البابا شنودة احتفظ بصورة للإمام الراحل محمد متولي الشعراوي، في مكتبه، ونعاه بكلمات مؤثرة قائلًا: “كان صاحبي.. والله يعلم كم تأثرت بوفاته.. كان عالما كبيرا فقيها في اللغة كان محبوبا من شعبه وكانت صداقتنا تسعد الملايين من المسلمين والمسيحيين”.

كما أن له فتاوى وتفاسير كثيره ضد التطرف والإرهاب ولكم أن تلاحظوا أن الجماعات الظلامية لا تدافع أبداً عن الشعراوى بل يصل الأمر الى الهجوم عليه فأى منطق يتحدث المتحدثون أنه صاحب أفكار متطرفة ويدعم التطرف !!!!!

فالفتوى صناعة بشرية، ترتكز على شقين، شق علمى يعتمد على الأدلة، وشق ذاتى يعتمد على الطبع والاستنباط وأن الطبع الإنسانى مؤثر بشدة فى توجيه الفتاوى لذا فأن هناك شروطًا لعملية الإفتاء.

مثل هل ثبت في هذه المسألة نص شرعي؛ ويلزم منه التثبت الذي هو من الأسس المنهجية لدى العلماء المسلمين على كافة العصور وما المراد من هذا النص؟ ولماذا شرّع الله سبحانه وتعالى عبادة معينة أو حكمًا معينًا، ويبدأ العقل في التفاعل، وصولًا إلى مقصود الشريعة الإسلامية من ذلك، وأن الأوامر الشرعية إنما جاءت من أجل تحقيق مصالح الخلق، والنواهي جاءت لدفع الضرر والمفاسد عن الناس وكيفية إنزال الحكم على الواقع.

وبالتأكيد أن مدرسة الاجتهاد لا تقف عند الموروث فقط، بل تتبع ضوابط معينة هذا الموروث احتواها، وهناك قضايا عديدة في الواقع ليست موجودة في الزمن السابق، لذلك فإن العقل الفقهي سيظل في حلقات نورانية متواصلة مربوطًا بالمنهج الذي ورثناه، ولا يرتبط بقضايا جزئية بقدر ما نرتبط بكيف عالج الفقيه السابق قضاياه في واقعه وفي زمنه.

وإذا أدركنا هذا الشق نستطيع ألا نقف عند حدود الفتاوى السابقة، مؤكدًا أن بعض الفتاوى ينبغي أن تظل حبيسة زمنها، وعلينا أن نلج إلى المناهج والأصول مع مراعاة تغير الزمن وتحرك العقل الفقهي لاستيعابه بصورة منضبطة وفهم رشيد للنص الشرعي.

كما أن هناك أهمية عدم فصل العقل والتفكير عن أي جزئية من جزئيات الفتوى وأن الفتوى تتألف من ثلاثة أجزاء وعمادها العلم، والعلم لا يمكن أن يكون إلا في إطار عقل منضبط وايضاً على المسلم التحقق ممن له حق الفتوى وأن من يقوم بذلك هو الشخص الذي استجمع عناصر العملية الإفتائية فيجب أن يكون مدركًا لحقيقة النص الشرعي والأدلة المنبثقة عنه بكافة التفاصيل وأن يكون لديه بنية علمية أساسية معتمدة .

كل ما اتمناه فى كل أمورنا الا نتناول أى أمر إلا بموضوعية وأن نبتعد عن الطرح السطحى والانتقائية وأن نضع دائمًا الأمور فى نصابها الصحيح دون مبالغة أو نقصان وكونك لا تستسيغ الحق فهذا ليس معناه أنه باطل.

وكونك وفق ثقافتك اختلفت مع الأمام الشعراوى فى قضية ما أو عدة قضايا هذا ليس معناه أنه مخطئ وأنك على حق، وأيضاً ليس معناه أنه على حق وأنت مخطئ فالرجل اجتهد وقد يصيب وقد يخطئ لكن المؤكد والذى لا يدع مجالاً لشك أنه لا وجه لمقارنه ما أصاب فيه وما قدمه للإنسانية كلها وللإسلام خاصه وما أخفق فيه.

……………………………………………………………………………………………………………

الكاتب: اللواء تامر الشهاوى عضو مجلس النواب ولجنة الدفاع والأمن القومى المصرى السابق.

والمقال نقلا عن صفحة الكاتب الشخصية على موقع “فيسبوك”.

……………………………………………………………………………………………………………

اقرأ أيضا:

د. ناجح إبراهيم يكتب: «الشعراوى» مخاطباً كل العصور

 

زر الذهاب إلى الأعلى