كلاكيت.. السينما المصرية في كتاب سلامة
سردية يكتبها د. قاسم المحبشى
لقد كانت مصر بالنسبة لي حلم الطفولة، عرفتها أول ما عرفتها عبر السينما والتلفزيون، عبر المسلسلات والأفلام ، ثم من خلال قرأتي للرويات الصادرة من أدباءها ثم عبر كتب الفلاسفة والمفكرين المصريين الذين أضاءوا سماء الفكر العربي الحديث والمعاصر بنتاجهم الفكري والثقافي المتواصل.
عرفت لهجتاتها ، وأماكنها، من كتاب السر وروايات بين القصرين والحرافيش، وعمارة يعقوبيان، وعزازيل وعبقرية المكان، وتكونت لي صورة متخيلة عن القاهرة والجيزة والصعيد والإسكندرية والزقازيق وسيناء، وقناة السويس وجبل المقطم وكل شيء في مصر لديه تاريخ وذاكرة .. فمن أي الأبواب ينفتح المشهد ومن أي النوافذ يمكن الإطلال على هذه الواحة الأفريقية العربية المترامية الأطراف والوارفة الظلال ؟ ومن أي الأسوار يمكن تسلق قلعة التاريخ والحضارة الإنسانية الراسخة العمق في قلب الأرض؟.
وأنا أتجول بين صفحات كتاب كلاكيت للشاعر المبدع يحيى علي سلامة عادت بي الذاكرة إلى مرحلة الطفولة والمراهقة حيث كانت السينما المصرية تجعلنا نتسمر على مقاعدنا ونحن نشاهد الأفلام الطويل في سينما ريجل في خور مكسر أو الحرية في كريتر، إذ عرفت عدن العروض السينمائية لأول مرة عام 1910 عندما كانت سلطات الاستعمار البريطاني تعرض الأفلام الصامتة باللونين الأبيض والأسود لجنودها في منطقة كريتر وللعاملين البريطانيين في السلك الدبلوماسي والمدني وأبناء عدن العاملين في المحميات البريطانية في جنوب اليمن.
وبعدها بدأت الأفلام تعرض في مختلف أرجاء المدينة. و خلال السنوات الذهبية في السينما المصرية (من الأربعينيات وحتى الستينيات)، كانت الأفلام التي تعرض في القاهرة تعرض في عدن في نفس الوقت، وكانت قيمة التذكرة في عدن أعلى من قيمتها في مصر.
كانت أفلام فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب تعرض في عدن. وكان مستر حمود يملك حقوق عرض أفلام الممثل المصري فريد شوقي إذ كانت تعرض أفلامه في سينما هريكن فقط بموجب اتفاق نشرته حينذاك الصحف، بينما احتكر خدابخش، مالك سينما الأهلية، أفلام الفنان والموسيقار المصري فريد الأطرش بموجب عقد أبرم معه.
زار الأطرش عدن في منتصف الخمسينيات بناءً على دعوة من خدابخش. وبحسب الباحث محمد الكرامي ” استقبلت عدن في عقدي الخمسينيات والستينيات ألمع نجوم السينما المصرية مثل فريد الأطرش وشفيق جلال ومحرم فؤاد وماهر العطار ومحمود شكوكو وغيرهم، وبلغ تأثير الأفلام المصرية حد أنها أثّرت على جيل من الشعراء الغنائيين والملحنين والمطربين”.
وأنا أقرأ كتاب كلاكيت عادتي بي الذاكرة إلى دراسة بحثية كتبتها قبل ثلاث سنوات عن الفلسفة والسينما بتحفيز من بحث الدكتورة فاطمة مصطفى أستاذ الفلسفة الوجودية في جامعة المنوفية إذ اشرت فيه إلى أن الباحثة إذ استعرضت العلاقة العضوية بين التنكولوجيا والسينما وكيف مهدت التنكولوجيا السبيل لازدهار السينما، وإذ اشارت إلى أن السينما ” بدأت كفكرة عرض صامت موحي، يعتمد على تتابع المشاهد لتكوين قصة، مستخدمة في ذلك لونين فقط هما الأبيض والأسود، ثم بدأت تتطور بتطور العلم والتكنولوجيا البصرية والسمعية لتتحول إلى ما هي عليه الآن.
على أن العمل الفني السينمائي منذ بدايته وحتى الوقت الحالي اتخذ من القصة ركيزة رئيسة في بناءه، تدور حولها الأحداث.
ويعد استخدام هذه الأساس أمر ممتد في التاريخ الحضاري؛ حيث عرف الإنسان القصة بمفهومها البدائي منذ الحضارات الشرقية القديمة، فصنع بها ميثولوجيا عَّبرت عن “مظاهر الكون والحياة تعبيرا فنيا” إذا كانت الصورة هي الوحدة الأساس للفيلم وكان المنتوج الأساس للفلسفة هو المفهوم، فلقاء الفلسفة بالسينما هو لقاء المفهوم بالصورة في أفق استجلاء تحولات صورة الفكر داخل الصورة السينمائية.
ولا تنتج السينما مفاهيمًا، فمفاهيم السينما غير معطاة في السينما ومع ذلك فهي مفاهيم السينما، أي مفاهيم تنتجها الفلسفة مستندة إلى الصورة السينمائية.
فكيف إذن يتمثل الفكر الفلسفي في الإبداع السينمائي؟ وبناء على هذا التساؤل، «لا شيء يمنع السينما من الاشتغال بوسائلها الخاصة على موضوعات أساسية مثل: المعرفة، الحرية، العدالة، الفن، الأخلاق إلخ… وستحتل الأساليب التقنية مكانتها ضمن هذا التصور الموضوعاتي، مبرزة كيف يتم نقل بعض الحالات النفسية بشكل تقني للحصول على فيلم.
وقد تحدث “برجسون” في هذا الإطار، عن الصور الذهنية، فعندما نتصور بعض المشاهد، نعرضها بذهننا، لذلك من الممكن أن نعتقد بأننا نعيش حالة سينمائية . وباشتغال السينما على الموضوعات المفاهيمية التي تشكل منطلقات تأملية للتفكير الفلسفي، بمقدورنا الإقرار بفلسفة للسينما، وأن هذه الأخيرة تنحت بآلياتها التقنية والفنية والجمالية تمثلات الفكر الموضوعاتي للفلسفة في الإنتاج الفني للفن السينمائي (الصورة السينمائية)، التي تحوي كل ما يُشَكِّل الإبداع السينمائي برمته.
فهل آن الأوان لتحويل المفاهيم الفلسفية المجردة إلى صور سينمائية متحركة قابلية للمشاهدة والفهم والتنمية الثقافية الجمالية والأخلاقية والمعرفية ؟.
وخلال إقامتي في مصر وجدت الأثر الثقافي التي تركته السينما في عموم الوعي الشعبي شاهد حال ومآل إذ قلما تجد مواطنا مصريا من جيلي لا يتذكر نجوم الفن السينمائي الذين كان لهم دورا في تنمية الثقافة العامة، إذ تعد السينما أحد أهم أدوات تشكيل الوعي في العصر الحديث فإذا كانت وسائل الإعلام قدألغت أدوار المؤسسات التقليدية لتشكيل الوعي والمتمثلة تاريخيا في الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد والكنسية، حيث أصحبت هذه الوسائل الإعلامية المصدر الرئيسي لتشكيل الوعي في ظل ثورة المعلومات والاتصالات، حيث أصبح الإنسان يتلقي معارفه ومعلوماته.
وعلى صعيد تنمية المرأة في المجتمعات العربية إذ شهدت الدراما المصرية تطورا مضطرا في تصوير المرأة وتمثيلها بما ينمي صورتها الإيجابية في عملية التنمية المستدامة، على العكس من الصورة النمطية للمرأة التي لا وظيفة لها غير ترويض الوحش الذكر وجعله إنسانا كما تروي ملحمة جلجامش عن حكاية المرأة الحسناء التي بعثتها عشتار لترويض انكيدو المتوحش تلك الوظيفة الترويضية التي أكتسبت شهرتها في حكاية ألف ليلة وليلة بوصفها مروضة الملك الموحش الذي يفتك ببنات جنسها.
صورة الأنثى الجسد البيولوجي الذي لا وظيفة له غير التفنن في اغراء الذكر وترويضه هي التي سادت لزمن طويل جدا في تاريخ الحضارة الإنسانية. كانت المرأة ومازالت هي الموضوع الأساسي للفرجة السينمائية العربية في المشرق والمغرب، إذ شغلت صورتها بكل الصفات، عاشقة، زوجة، مضطهدة، خائنة، متسلطة، عاهرة، راقصة، أما ومطلقة، العديد من كتاب السيناريو والمخرجين والمنتجين في مئات الأفلام العربية، منذ زمن الأبيض والأسود إلي زمن الألوان الطبيعية، كانعكاس واضح لنظرة المجتمع العربي إليها؛ وهو ما حولها إلى بضاعة لترويج الإنتاج السينمائي، بمشاهد الإغراء، الجنس، الرقص، الاغتصاب، الاستهتار بالجسد الأنثوي وبالتحرش الذي يداعب غرائز المشاهدين المراهقين والمكبوتين وإثارتهم، وهي مشاهد تكاد تكون متشابهة في العشرات من الأفلام العربية” ( ينظر ، محمد أديب السلاوي ، إلى متى تظل المرأة على الشاشة العربية جسدا للمتعة والإغراء؟ ٢٠١٩).
وبتنا نتساءل كيف يمكن للفنون الدرامية أن تعيد بناء صورة المرأة العربية الإيجابية بما يعزز دورها في التنمية المستدامة؛ صورة المرأة المكافحة في سبيل التعليم والنجاح والمرأة الطبيبة التي تحرص على رعاية مرضاها والمرأة القاضية التي لا تهادن في تثبيت العدالة والمرأة العالمة التي افنت عمرها في المختبرات العلمية والمرأة الفيلسوفة التي امضت زمانها في التفكير والكتابة في قضايا مجتمعها. ثمة ادوار جديدة للمرأة تستحق التمثيل والريازة.
ومن مصر لا من غيرها يمكن أن يتم تعديل الصورة.
الملخص:
كلاكيت، كتاب رشيق أنيق اصدرته الدار البحرينية المصرية للنشر والتوزيع للكاتب المثقف يحيى سلامة.
جاء في ١٤٠ صفحة من القطع المتوسط.
كتاب جديد بالقراءة والنقد والتقييم.
يدخلك في عوالم السينما المصرية منذ أكثر من قرن من الزمان.
ومعنى كلاكيت (بالفرنسية: Claquette) مؤشر اللقطة وتعني «الطَرق» وهي عبارة عن قطعة من الخشب عادة يتصل بأحد أطرافها ذراع خشبي يتحرك بسهولة، وله صوت مسموع عند الدق عليه. ويكتب على هذه اللوحة اسم الفيلم والمخرج و المصور ورقم اللقطة وكرة التصوير. و يشير تطابق الذراع على اللوحة إلى بداية اللقطة في الصورة.