حامد محمود يكتب: ما بين تجار الأزمات وشح السوق.. التدعيات الاقتصادية للصراع فى السودان

كشف الصراع الذي تفاقم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل 2023 عن العوار الذي يعاني منه الاقتصاد السوداني في ظل تفاقُم المؤشرات السلبية المرتبطة بارتفاع التضخم، وتراجع العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي، ووقف خطة الدعم الدولي من جانب المؤسسات الاقتصادية الدولية والدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

وفي ظل انفجار الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع انهارت آمال السودانيين في خفض التضخم المتزايد وإنعاش الاقتصاد وتحقيق معدل نمو إيجابي لم يتحقق منذ مدة طويلة، إذ من المتوقع أن يَنتُج عن الصراع الحالي فقدان للاستثمارات الخارجية، مع تزايد التأثير السلبي للمواجهات المسلحة على مختلف محاور الاقتصاد السوداني. وفي حال طال أمد الصراع، وأخفقت جهود التهدئة، من المتوقع أن يحدث تراجع حاد في المؤشرات الاقتصادية للبلاد، على نحو يدفع الاقتصاد السوداني إلى حافة الانهيار.

وفي ظل المواجهات المسلحة الدائرة حالياً بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تتزايد حالة القلق من تأثير الصراع على الاقتصاد السوادني الذي ظل يعاني من أزمات متفاقمة خلال السنوات الأخيرة. فبعد أن قادت حكومة عبدالله حمدوك (2019 – 2021) خطة لتنفيذ إصلاحات هيكلية بإشراف صندوق النقد الدولي، نجحت بعدها في الحصول على تعهدات بإسقاط جزء كبير من الديون الخارجية السودانية، وتخفيضها من نسبة 163% من الناتج المحلي السوداني إلى نسبة 14% من الناتج المحلي الإجمالي بعد إنجاز التعهدات، جاءت أحداث أكتوبر 2021 وما تلاها وصولاً إلى المواجهة المباشرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لتؤثر سلباً في المؤشرات الاقتصادية، مع تزايد الشكوك في قدرة الاقتصاد السوداني على العودة لمسار النمو، وقد ينذر ذلك بوضع اقتصادي خَطِر يترتب عليه وضع إنساني أشد خطراً.

ويمثل الاقتصاد العامل الاكثر تأثيرا فى معادلة تحرُّك الشارع السوداني؛ فمظاهرات 2018 ضد الرئيس السابق عمر البشير كانت في الأساس احتجاجاً على ارتفاع أسعار الخبز، وقد صنَّف تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية التدهور الاقتصادي أحد أبرز التهديدات التي تواجه السودان عام 2023. لذا تستكشف هذه الورقة التداعيات الاقتصادية المحتملة للصراع الدائر في السودان، وما ينتج عنها من تداعيات اجتماعية وإنسانية، ومستقبل الاقتصاد السوداني
في حال استمرت الأزمة لمدة أطول.

وكانت أزمة أكتوبر 2021 في السودان قد ادت إلى قيام البنك الدولي بتعليق مساعدات بنحو 500 مليون دولار كانت مخصصة لدعم ميزانية البلاد، كجزء من تعهُّد بمنح قدرها 2 مليار دولار. كما أوقف صندوق النقد الدولي تمويلًا بنحو 150 مليون دولار، بعد أن وافق في يونيو 2021 على برنامج قروض بقيمة 2.5 مليار دولار، فيما علقت الولايات المتحدة مساعدات بحوالي 700 مليون دولار، ونتج عن ذلك تراجع قيمة الجنيه السوداني بنحو 40% خلال 5 أشهر فقط، وخسارة استثمارات خارجية بأكثر من 35 مليار دولار في مجالات مثل الصناعة والزراعة. ومع هذا، حاولت الحكومة السودانية استكمال برنامج صندوق النقد الدولي من خلال رفع الدعم النهائي على المحروقات في عام 2022، والذي نتج عنه ارتفاع كبير في مستوى التضخم كان من المخطط أن يُسيَطَر عليه بحلول نهاية عام 2023، مع إحداث نمو اقتصادي إيجابي للمرة الأولى منذ فترة طويلة.

ويعدّ التضخم من المشكلات الأساسية التي تواجه الاقتصاد السوداني، حيث ارتفع في عام 2022 إلى أكثر من 154%، وفي يناير 2023 بلغ التضخم السنوي نحو 83%، ثم تراجع إلى 63.3% في فبراير 2023، فيما يعدّ الناتج المحلي الإجمالي السوداني من بين الأضعف في المنطقة، حيث لم ينمُ سوى مرة واحدة خلال السنوات الخمس الماضية. وفي ظل تدهور قيمة عملته، وارتفاع الأسعار عالمياً نتيجة للأزمات العالمية مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، سجَّل السودان خلال عام 2022 أعلى عجز في ميزانه التجاري منذ عام 2012.

وقد نتج عن التدهور الاقتصادي أزمات متكررة شملت نقصاً في سلع رئيسة تشمل الخبز والوقود؛ فمنذ انفصال جنوب السودان في عام 2011، تراجع إنتاج السودان من النفط، الأمر الذي دفعه إلى استيراد أكثر من 60 % من احتياجاته من الوقود. ويعد السودان من الدول الأشد فقراً رغم أنه ثالث أكبر مُنتج للذهب في إفريقيا، لكن إنتاجه يعتمد على قطاع
التعدين الأهلي بنحو 80%، وهذا القطاع غالباً ما يهرّب أكثر من 70% من إنتاجه للحصول على أسعار أعلى من الأسعار الحكومية.

وتتزايد التداعيات الاقتصادية للصراع الراهن في السودان في ظل عدد من المحددات الأساسية أبرزها تأثير الصراع الروسي الأوكراني، والتداعيات الناجمة عن جائحة كورونا، وتزامنها مع مرور البلاد بأزمة سياسية وأمنية حادة. ومن أبرز هذه التداعيات ارتفاع وتيرة التضخم الذي كان من المتوقع أن يتباطأ تدريجياً بدءاً من هذا العام، لكن التوقعات بزيادة عجز الموازنة العامة وضعف العملة المحلية أمام الدولار سيؤديان إلى زيادة التضخم فوق مستويات الـ 100% مرة أخرى، بعد أن تراجع لمستويات تقارب الـ 60% في الربع الأول من عام 2023، وسبق أن أكد وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم أن الحكومة تستهدف خفض مستويات التضخم لتصل إلى 25% بنهاية عام 2023، وهو ما أصبح صعباً بعد المواجهة العسكرية الدائرة حالياً، وضبابية المشهد السياسي والأمني في البلاد.

وسيؤدي الوضع الحالي إلى ارتفاع معدلات البطالة عن الحدود التى توقعها صندوق النقد الدولي (30.6%)، ومن المستبعد كذلك أن تجني الدولة 50% من إيراداتها من الموارد الضريبية وفق مستهدفها في ظل صعوبة الوضع الأمني والعسكري في العاصمة ومناطق أخرى، وتعتمد ميزانية السودان بشكل كبير على عائدات الضرائب والرسوم مع توقف المساعدات الدولية وتراجع الأنشطة الصناعية والزراعية.

كما قد ينتج عن استمرار القتال تدمير للبنية التحتية، وخلل في سلاسل التوريد، وتحويل الإنفاق من قطاعات مهمة إلى التمويل العسكري، وتراجُع ثقة المستثمرين في السوق المحلية، ومن المتوقع أن يفقد السودان الاستثمارات الأجنبية التي كانت تعتمد عليها الدولة، حيث تحتاج تلك الاستثمارات إلى أن تكون المخاطر السياسية والأمنية في أدنى مستوياتها.

وقد نتج عن الاشتباكات قيام عدد كبير من المواطنين السودانيين بشراء كميات كبيرة من السلع، خاصة الدقيق والبصل والزيت وتخزينها، مما خلق ندرة في السلع بالمحال التجارية، فيما اغلقت الأسواق الكبرى بالعاصمة مثل السوق المركزي جنوب الخرطوم، وأسواق بحري وأم درمان، والسوق العربي، والتي تُعد المصدر الأول لتغذية الأسواق الصغيرة والمحال التجارية في الأحياء بالسلع الاستهلاكية والخضروات والفاكهة.

ويعاني السودان من أزمة حادة فيما يتعلق بالأمن الغذائي، وبحسب الأمم المتحدة فإن نحو 15 مليون شخص (أي ثلث عدد السكان) يحتاجون إلى مساعدات إنسانية. ومن ثمّ فإن أي تصعيد للعنف لن يؤدي إلا إلى تدهور أوضاعهم أكثر. وقد توقعت الأمم المتحدة زيادة عدد السودانيين الذين يفتقرون إلى الأمن الغذائي بنحو حاد في نهاية عام 2023، وذلك للعام الثالث
على التوالي، وتتفاقم الأوضاع الإنسانية والاجتماعية مع صعوبة حصول المواطنين على احتياجاتهم الأساسية من الأسواق، وانقطاع التيار الكهربائي المستمر والنقص المتزايد في إمدادات المياه، واكدت الأمم المتحدة أن هناك حاجة لتوفير أكثر من1.7
مليار دولار لتقديم المساعد الإنسانية والحماية لـ 12.5 مليون شخص من الأكثر ضعفاً في السودان خلال المدى القريب.

ومما لاشك فيه فأن الاقتصاد السوداني سيواجه في ظل الصراع الجاري مستقبلاً مجهولاً، لاسيما أنه كان يعاني في الأساس من ضغوط وأزمات كبيرة، وجملة من التحديات الداخلية الهيكلية التي تستوجب الإصلاح، مما يعني أن مستقبل الوضع الاقتصادي في السودان بات مرهوناً بأفق معادلة السلام والحرب بين الأطراف المتصارعة.

كشف الصراع الذي تفاقم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل 2023 عن العوار الذي يعاني منه الاقتصاد السوداني في ظل تفاقُم المؤشرات السلبية المرتبطة بارتفاع التضخم، وتراجع العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي، ووقف خطة الدعم الدولي من جانب المؤسسات الاقتصادية الدولية والدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

وفي ظل انفجار الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع انهارت آمال السودانيين في خفض التضخم المتزايد وإنعاش الاقتصاد وتحقيق معدل نمو إيجابي لم يتحقق منذ مدة طويلة، إذ من المتوقع أن يَنتُج عن الصراع الحالي فقدان للاستثمارات الخارجية، مع تزايد التأثير السلبي للمواجهات المسلحة على مختلف محاور الاقتصاد السوداني. وفي حال طال أمد الصراع، وأخفقت جهود التهدئة، من المتوقع أن يحدث تراجع حاد في المؤشرات الاقتصادية للبلاد، على نحو يدفع الاقتصاد السوداني إلى حافة الانهيار.

……………………………………………………………………………………………………..

– الكاتب: المدير التنفيذى لمركز الفاربى للدراسات السياسية والاستراتيجية.

اقرأ أيضا للكاتب:

حامد محمود يكتب: أسباب الصراع فى السودان ومآلاته (1 من 2)

حامد محمود يكتب: أسباب الصراع فى السودان ومألاته (2 – 2)

 

زر الذهاب إلى الأعلى