د. قاسم المحبشى يكتب: من وظائف الفلسفة الأساسية
معظم الكلمات التي يستخدمها الناس في حياتهم هي مفاهيم مجردة، فالإنسان مفهوم، والزمان مفهوم، والمكان مفهوم، والعدالة مفهوم، والحرية مفهوم، والوجود مفهوم، والجمال مفهوم، والسياسية مفهوم، والوطن مفهوم، والدولة مفهوم، والقانون مفهوم، والتربية ومفهوم، الحرية ومفهوم، العدالة وغيرها.
تلك المفاهيم الكلية وغيرها كثيرة التي لا وجود لها في الواقع المحسوس الملموس، هي من استدعت الحاجة الملحة إلى الفلسفة، منذ سقراط ولازالت، تستدعيها إلى ابد الأبدين.
وهذا هو ما ادركه جيل دللوز في كتابه ما الفلسفة ؟ فكانت إجابته: إنها فن ابتكار وخلق المفاهيم، والمفاهيم الفلسفية، هي كليات غير متراصة وغير متطابقة، مما يعني تشظيها ، مع أن المفاهيم والمقام أو المسطح متقاربة بشكل كبير إلا أنها غير متطابقة فيما بينها.
ومقام المحايثة ليس مفهوماً ولا مفهوم المفاهيم، وكون الفلسفة ذات نزعة بنائية فذلك يعني خلق المفاهيم وإشادة المقام، لذلك يشبه دولوز المفاهيم بالموجات المتعددة التي تعلو وتهبط، بينما مقام المحايثة هو الموجة الوحيدة البارزة التي تلفها وتنشرها.
ولا يوجد أي علم أخر يمكنه إشباع هذه الحاجة غير الفلسفة شاء من شاء وأبي من أبي!.
وتحديد المفاهيم وتعريفها هو الخطوة المنهجية الأولى في الدراسات الإنسانية والاجتماعية والثقافية، ذلك كونها مفاهيم ملتبسة وغامضة وغائمة، على الدوام، لأن موضوعها ذاته متحرك ومتغير باستمرار، إذ لا توجد نواة صلبة قابلة للتحديد والتعريف تصلح جوهراً للمفهومات التاريخية الثقافية كتلك التي نستخدمها في تفسير الطبيعة وكل تعريف ليس إلا تعريفا نسبيا ومحتملاً للمعنى.
لكن أشد الأخطار هو خطر الكلمات التي تستثير في أذهاننا جواهر أو ماهيات فكرية مشخصة زائفة تملأ التاريخ سكان من الأسماء الكلية المختلقة لا وجود لها في الواقع.
ولعل الحاجة إلى إعادة تحديد وتعريف الكلمات التي نستعملها في دراساتنا الاجتماعية تزداد، لاسيما مع مفاهيم أو مصطلحات تلقفناها من سياقات ثقافية مغايرة، إذ أن المفاهيم لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغات فحسب، بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها الاجتماعية الثقافية المشخصة، ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وتجربة ممارسة وعلاقات قوة وسلطة معرفة ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق دلالة.. الخ.
غير أن مشكلة الإنسان مع المفاهيم المجردة تكمن في اعتقاده بانه يعرفها بمجرد نطقها وحينما يسأل نفسه عن معناها يكتشف جهله وتلك هي قضية سقراط الفلسفية.