رفعت رشاد يكتب: وكالة من غير بواب
مساحات مهجورة، وأماكن منسية، يزورها الكاتب الكبير رفعت رشاد، فيحولها بقلمه إلى جغرافيا مأهولة بالحكايات، ومسكونة بالأسطورة، ونراها فى مقالاته كأننا نراها لأول مرة، ونحن نمر بها فى غدونا ورواحنا.. وفى التالى واحدة من هذه الأماكن .. يتناولها مقاله المنشور بصحيفة “الوطن” وفى التالى نصه:
كل الوكالات لها بواب، ما عدا هذه الوكالة. كل الوكالات لها حدود وربما أسوار، ما عدا هذه الوكالة. كل الوكالات لها أسماء محددة، ما عدا هذه الوكالة.
لا تاريخها معروف ولا الذين أوجدوها معروفين، لكن الجميع يعرفها والكل يقصدها. يطلق عليها الناس فى الوقت المعاصر «وكالة البلح» ويسميها كبار السن «سوق الكانتو» ويتداول التجار المسيطرون عليها اسم «البالة» اختصاراً وتمييزاً لسوق تجارة البالة أى الملابس المستعملة.
ما نشر عن اسم وتاريخ وكالة البلح ليس صحيحاً بشكل تام، ربما يكون جزء منه صحيحاً ولكن لا يوجد ما يوثق المعلومات الموجودة على الإنترنت لأنها معلومات متضاربة وليست محددة التواريخ ولا الناس الذين أنشأوها.
والرأى عندى أنها نشأت مثلما ينشأ أى سوق غير مخطط فى شوارع بولاق، وهو حى شعبى عريق يقع على النيل وربما كان تجار البلح يبيعون بضاعتهم فيه أو نشأ لبيع الملابس المستعملة أو كان لتجار الخردة وقطع غيار السيارات سيطرة عليه، وفى كل الأحوال وكالة البلح تنتشر الآن فى مساحة جغرافية كبيرة استطاع الباعة والتجار احتلالها وتمتد من قرب منطقة السبتية حتى شوارع وسط القاهرة وميدان الإسعاف أشهر الميادين أو التقاطعات المزدحمة فى مصر كلها منذ زمن طويل.
احتل الباعة شارع 26 يوليو – أو فؤاد سابقاً – وكنت أتخيل ماذا لو أن أحفاد الملك فؤاد ما زال لهم سلطة فى مصر، هل كان الباعة يجرؤون على احتلال الشارع؟!.
لقد فرضت الوكالة نفسها على السلطات ولم تستطع جهة أن تسيطر على الوكالة وباعتها وبالطبع تجارها، لكن كان فى ذلك خير للناس الفقراء الذين يلجأون إلى الوكالة لشراء حاجاتهم من الملابس المستعملة بأسعار يتحملونها فى ظل الارتفاع الكبير فى الأسعار.
فى الوكالة تجد أيضاً أن الأغنياء عرفوا الطريق إليها بعدما ساءت أحوال الطبقة المتوسطة، بل إن بعض ميسورى الحال يشترون من الوكالة أضعاف ما يمكن أن يشتروه من خارجها بنفس القيمة المالية.
كانت الوكالة وكما جسدها الأديب الكبير إحسان عبدالقدوس فى قصته «لن أعيش فى جلباب أبى» مكاناً لتجارة الخردة وقطع غيار السيارات، وكانت تجاورها محلات بيع أقمشة الستائر، لكن بعد تغير الأحوال فى بورسعيد وإلغاء الإعفاءات التجارية بها نقل تجارها نشاطهم إلى وسط القاهرة الأكثر رواجاً مستفيدين من علاقاتهم بالخارج وجلب أطنان من البالة أو الملابس المستعملة.
حاولت الحكومة من قبل تقنين أوضاع الباعة وحصرهم فى أماكن معينة لكن كان التفكير غير واقعى فالبائع يتحرك حسبما يجد رزقه.
حل مشكلة الباعة وسوق الوكالة الذى يخدم ملايين المواطنين يكون بالتفكير المنهجى والتخطيط السليم للاستفادة من السوق لصالح اقتصاد الدولة، وفى نفس الوقت لتقديم خدمات للفقراء.
يجب على الحكومة أن تنظم هؤلاء الباعة وتدمجهم فى الاقتصاد الرسمى فتخضعهم لخططها وفى نفس الوقت تعتبرهم يشغلون وظائف فعلية، وفى كل الأحوال يمكن من خلال تقنين أوضاعهم تحصيل حقوق الدولة من الضرائب وعوائد الإنارة ومنعهم من شغل الشوارع واقتصار نشاطهم على المحلات نفسها.
تعد سوق وكالة البلح منفذاً للبسطاء لشراء حاجاتهم خاصة خلال المواسم والأعياد، فالأسعار مناسبة إلى حد ما وهو ما يجعلنا نفكر فى الاستفادة من مثل تلك الأنشطة وهذا النوع من التجارة.