رفعت رشاد يكتب: .. كما يشتاق الزرع إلى الماء
فى كل مرة يكتب فيها الكاتب الكبير رفعت رشاد عن تلك المشاعر العفوية البسيطة يبهر القارىء، بصوره الدرامية التى تلتقطها عين مصور من زوايا غير مألوفة فتثبت الضؤ عند لحظة إنسانية نادرة، كما فى هذا المقال الذى يذكرك بأفلام المخرجين الكبار، بركات وصلاح أبو سيف، الواقعية أيام سينما الأسود والأبيض.. المقال سبق نشره فى صحيفة “الوطن” وهذا نصه:
يحن كتّاب السياسة للكتابة عن موضوعات بعيدة عن هذا الحقل الجاف الذى لا يقرأ عنه إلا كل راغب أو متصل بالعمل السياسى. لذلك أفر بقلمى إلى ذكريات قديمة، وجاءت أيام العيد لتذكرنى بأيامى فى الصعيد، فى قريتنا «الحاجر»، القابعة فى حضن الجبل بسوهاج، يحدها الجبل من الشرق وترعة متوسطة الاتساع من الغرب.
فى مدرستنا التى اجتزأت مساحة من بيت الزهرى تبرعوا بها تعلمنا حتى المرحلة الابتدائية.
كنت أقرأ الأخبار فى إذاعة المدرسة والتى أكون أعددتها منذ اليوم السابق. كنت أستمتع كثيراً لو كان منها خبر عن فوز الأهلى بمباراة لكرة القدم.
فى اليوم السابق كنت أحتضن الراديو فى انتظار التعليق الذى يلقيه الإذاعى الكبير فهمى عمر عن مباريات الكرة وأقتبس من عباراته وأعزز بها نشرتى.
كنت مجتهداً، وفى السنوات الأولى بالمرحلة الإبتدائية أجدت القراءة والكتابة، وبذلك صرت أتمتع بميزة أننى قادر على كتابة الجوابات، وهى ميزة لو تعلمون كبيرة، فالأسر التى تريد كتابة جواب لعائلها المسافر فى القاهرة أو الإسكندرية لم تكن ترتاح كثيراً لإطلاع الشباب القادر على القراءة والكتابة على أسرارها، لذلك كانت غالباً تحجم عن الاستعانة بأحدهم لكتابة أو قراءة جواب جاءهم من الأب المسافر.
لذلك وجدوا فى شخصى، الأقرب إلى الطفل، الحل لمخاوفهم وحرصهم على كتمان أسرارهم. ففى النهاية لن يبوح الطفل بما سمعه أو قرأه أو كتبه، وفى نفس الوقت أدى الغرض وكتب الجواب، وهو ما كان محل ارتياح الأسر.
كان جدى لأمى ممن تُحفظ عندهم أمانات بيوت العائلة، وكان لدينا غرفة كبيرة تحيط بجدرانها الصناديق الخشبية المحلاة بشرائط نحاسية مزخرفة، يحوى كل منها ما اعتبرته أسرة ما حاجات نفيسة عندها فجاءت به إلى منزلنا لكى تحفظه.
واستكمالاً للدور الذى كان جدى يقوم به، كان يتلقى الجوابات من عوائل الأسر المسافرين والتى كانت تحوى «بوليصة» أو حوالة بريدية أرسلها المسافر لإعالة أسرته.
كانت الحوالات تصل باسم جدى الذى يقوم بصرفها وإعطاء قيمتها إلى كل أسرة. لم تتجاوز قيمة أى حوالة خمسة جنيهات كانت كافية لتيسير حياة الأسرة وتوفير احتياجاتها لمدة شهر وربما أكثر.
كان جدى أحمد مرسى يطلب منى يومياً الذهاب إلى عم عبدالعال عوض – مكتب البريد الأهلى – لجلب الجوابات التى كانت تصل يومياً وأحضرها بعدما أسير لمسافة تزيد على كيلومتر، ثم أقرأها على جدى الذى كان يكلفنى بأن أذهب إلى بيت فلان وأبلغهم بكذا، ثم أقابل فلاناً وأخطره بكذا، وبعد أن يصرف جدى الحوالات أقوم بتوصيل قيمتها إلى بيوت أصحابها.
فى تلك البيوت عرفت أسراراً كثيرة، لكن حفظ السر كان أهم سمة تطمئن البيوت من ناحيتى.
ومن أكثر ما تحتفظ به ذاكرتى العبارات التى كنت أستهل بها الجوابات التى أكتبها، كانت عبارات جاهزة لا تختلف كثيراً فى كل مرة، لم تكن صاحبة البيت تتكلف عناءً كثيراً فى إملاء ما تريد، كنت أبدأ على لسانها بما يلى: «نعرفك يا والدنا أننا نشتاق إليك كما يشتاق الزرع إلى الماء.. والمريض إلى الدواء.. والعليل إلى الشفاء..»، كانت كلمات معبرة حقيقة عن مشاعر سيدة البيت التى تقول «والدنا» ولا تقول زوجى أو حبيبى! وكانت تدمج مشاعرها مع مشاعر أولادها تجاه أبيهم المسافر ليتعرق ويسد رمقهم، فكانوا يشتاقون إليه كما يشتاق الزرع إلى الماء.. فهل يكفى ذلك لشرح مشاعرهم؟.