رفعت رشاد يكتب: دهموش والجبرتي.. وأنا
حكاية من حكايات صاحبة الجلالة، وما أكثر هذه الحكايات المشوقة التى يصادفها الصحفيون فى حياتهم الصحفية، ويحكونها كأنها لم تحدث لهم، ولكن حدثت لآخرين.. والكاتب الكبير رفعت رشاد يستدعى فى هذا المقال من مخزون ذكرياته ما لايجب أن نتوقف عند ظاهره، ولكن نعمل الفكر ونبحث عما ورائه.. والمقال منشور فى صحيفة الوطن، ونعيد هنا نشره وهذا نصه:
حكايتى مع دهموش حكاية لا أنساها من أربعين سنة، كنت فى بداية الثمانينات من القرن الماضى، أعمل فى قسم التحقيقات بجريدة الأخبار، من حسن حظى أن التقيت وعملت هناك مع مجموعة من كبار الصحفيين، الذين لم يكونوا من المشاهير، إلا أنهم كانوا من الممتازين فى مهنة الصحافة والكتابة ومن المثقفين المعتبرين.
كان ممن أشرت إليهم الأستاذ سيد الجبرتى رحمه الله، وهو من أحفاد الجبرتى الكبير الذى أرَّخ للحملة الفرنسية، كان الجبرتى المعاصر شخصاً مهذباً مثقفاً فى تواضع، وكان يتفادى أذى لسان مدير التحرير الذى كان يرأس الاجتماع الأسبوعى للمحررين، والذى كان يتقصّده بنقده مستظرفاً.
كُلفت بإعداد تحقيق عن صناعة الملابس الجاهزة، وفى ذلك الوقت كانت تلك الصناعة تعانى معاناة شديدة. كان غالبيتنا يرتدى القمصان التفصيل معرضاً عن شراء قميص ردىء الصناعة.
كان الجبرتى مرشدى ومشرفى فى إعداد التحقيق، وأول نصيحة أو توجيه منه أن أذهب إلى الأرشيف لجمع المعلومات التى أحتاجها والتى بناء عليها أحدد الأسئلة للمصادر التى سأقابلها وكذلك لتضمين الموضوع بيانات وحقائق مطلوب ذكرها.
فى الأرشيف وجدت اسماً يتكرر كثيراً فى الموضوعات المشابهة هو اسم الدكتور سيد دهموش، رئيس الهيئة العامة لصناعات الغزل والنسيج، لم يكن لى معرفة بالاسم ومنصبه ودوره.
عرضت كل المعلومات التى حصلت عليها على الجبرتى فقال: عال، الآن الخطوة الأولى أن تقابل دهموش وتسأله ما اتفقنا عليه من الأسئلة.
ولما سألته أين أجد هذا الدهموش الذى لم أسمع اسمه يتسمى به أحد من قبل إلا فى روايات الجن والعفاريت، هز الجبرتى كتفيه وقال: «اتصرف.. اسأل واعرف».
سألت وعرفت أن مكتبه فى مبنى وزارة الصناعة بجوار فندق شبرد. قدمت نفسى لمدير مكتبه، فهز رأسه وقال: الدكتور سيد ليس موجوداً، فسألته: متى يمكن أن أقابله؟ مط شفتيه وقال: لا أعرف، فهو ليس له مواعيد ثابتة.
فقلت: هل يمكن أن أتواصل معك لأعرف متى أقابله، قال: لا مانع. انصرفت لحالى. توقفت بقية خطوات التحقيق على مقابلة دهموش حسب توجيهات الجبرتى.
أعدت محاولة لقاء دهموش، ولكن وجدت نفس الصيغة من الرد، هو لا يأتى فى مواعيد محددة، وربما لا يأتى مطلقاً فى أيام عدة.
كان رؤساء الهيئات العامة فى ذلك الوقت أباطرة، كانوا أقوى من الوزراء أنفسهم، فهم باقون فى مناصبهم لمدد طويلة بينما كان الوزراء يتغيرون.
خلال خروجى من مكتب دهموش أشفق علىّ أحدهم بعدما وجد أننى لن أصل إلى أى نتيجة، فنصحنى بأن أذهب إليه فى مكتبه الآخر، فسألته: هل له مكتب آخر؟ قال: له مكاتب أخرى، ودلنى على عنوان المكتب المحتمل وجوده فيه، ولا أتذكر الآن أين ذهبت إليه فى ذاك المكتب، لكن تكرر نفس المشهد، هو غير موجود ولا يأتى فى مواعيد محددة.
صار دهموش بالنسبة لى كما الجن الذى يبحث عنه السحرة، فهو غير موجود فعلياً ولا أحد يعرف كيف يجده، وفكرت أنه يمكن أن يكون شخصية وهمية ولا يوجد أحد اسمه دهموش، عدت إلى الجبرتى الذى كان مصمماً على ألا تحقيق بدون لقاء دهموش.
صار دهموش عقدة بالنسبة لى، أنا لم أقصّر فى بذل الجهد ولا السعى للقائه، لكنه غير موجود، وحتى لو لم أتمم تحقيقى كنت أتمنى لو التقيته لأعرف من هو بل ما هو، لكن لم ألتقِ دهموش حتى الآن ولا أعرف ملامحه ولم أكتب التحقيق الصحفى عن صناعة الملابس الجاهزة، وبالطبع لم يُنشر موضوع بهذا العنوان.
أعرضت عن الجبرتى الذى وضعنى فى هذا الموقف، لكن لا أنسى له أبداً نصائحه الغالية فى طريقة إعداد التحقيق الصحفى.
لم يُشفَ غليلى تجاه سيد دهموش إلا عندما قرأت مقال «فكرة» لأستاذنا مصطفى أمين يهاجم فيه دهموش هجوماً شديداً، ويُنهى مقاله بهذه الكلمات «سيد دهموش.. دهمشه الله».