لواء د. سمير فرج يكتب: شاهد على حرب أكتوبر 1973
بيان
«شاهد على حرب أكتوبر 1973» هو اسم آخر إصداراتى، كتابى الخامس، الذي أصدرته الأسبوع الماضى، من خلال الهيئة العامة للكتاب، بمناسبة الاحتفال بمرور 50 عامًا على حرب أكتوبر العظيمة، حيث شعرت أننى قبل أن أغادر هذه الدنيا، يجب أن أضع شهادتى عن هذه الحرب العظيمة، خاصة أننى اشتركت في معظم فصولها، ولم أكن شاهد عيان، فقد شاركت فيها منذ بدء أحداث 5 يونيو 67، ثم سنوات حرب الاستنزاف على الخط الأمامى للضفة الشرقية لقناة السويس.
وبينى وبين دفاعات العدو الإسرائيلى خط بارليف مسافة 200 متر، هي عرض القناة. تعرضت خلال السنوات الست في حرب الاستنزاف لمختلف أنواع التراشق بالنيران، بدءًا من نيران الأسلحة الصغيرة، ودانات الهاون، ثم نيران المدفعية، ثم الهجوم الجوى، وكان آخرها قنابل النابالم على موقع سريتى.
ولقد تعلمت الكثير خلال حرب الاستنزاف، حيث صحّت مقولة إن الحرب تُعلم الحرب. وأتذكر قائد كتيبتى في هذه الفترة، رحمه الله، المقدم أحمد شفيق سليمان، وهو يعلمنى كيف نحفر الحفرة الثعلبية على الميول الأمامية للخندق فوق مياه القناة مباشرة، وخلال فترة حرب الاستنزاف، كان إغراق المدمرة إيلات أمام سواحل بورسعيد بواسطة أبطال البحرية المصرية حدثًا فريدًا، وحتى يومها، ظل العدو الإسرائيلى يقذف مواقعنا الدفاعية، خمسة أيام، ليل نهار، بكل أنواع الذخيرة انتقامًا لإغراق هذه المدمرة.
وخلال هذه الفترة عاصرت تهجير أبناء بلدى بورسعيد ومعهم أبناء الإسماعيلية والسويس، الذين تركوا منازلهم، وهم لا يعلمون إلى أين هم ذاهبون، فالأطفال تركوا مدارسهم وأصدقاءهم، وعاشت عائلات بورسعيد في عشش رأس البر.
رفض والدى ووالدتى ترك مدينة بورسعيد، وعندما كنت أزورهما هناك في إجازتى من الجبهة، كنت أنزل وأتجول في المدينة الحبيبة بورسعيد، التي أصبحت خالية من البشر، ليس فيها إلا رجال القوات المسلحة، وخاصة أبطال الدفاع الجوى، الذين أدوا بطولات عظيمة خلال هذه الفترة ضد هجمات العدو الجوى ضد مدينة بورسعيد.
حيث إنها كانت خارج مدى حائط الصواريخ المصرى، كذلك كان الدعم الشعبى للقوات المسلحة عظيمًا، ومازلت أتذكر مرحلة بناء حائط الصواريخ، حيث كان أبناء ورجال «المقاولون العرب» هم الذين يبنون دشم حائط الصواريخ، وفى إحدى الليالى، هاجم الطيران الإسرائيلى أحد المواقع أثناء تجهيزه بالعمال، وبعد انتهاء الغارة، طلب منى قائد الكتيبة أن أذهب إلى مكان البناء لتقديم أي عون قبل وصول عربات الإسعاف من مستشفى فايد العسكرى.
ووصلت إلى هناك، وكانت المأساة حفرة من دانة الألف رطل من الطيران الإسرائيلى، بها عشر جثث للعاملين، لا يمكن أن تتعرف على الرؤوس لمَن، والأيدى والأرجل لمَن، ولكن كانت العظمة في صباح اليوم التالى، لقد جاءت الوردية الجديدة لتستمر في بناء وإنشاء الموقع، وكانت رسالة للعدو الإسرائيلى بأن الشعب المصرى هو الذي يحارب جنبًا إلى جنب مع رجال القوات المسلحة.
خلال حرب الاستنزاف، كنا نتدرب على الأسلحة الجديدة، التي وصلتنا من الاتحاد السوفيتى، كنا نذهب إلى بحيرة قارون في معسكر لعدة أسابيع، نتدرب على العبور باستخدام المركبات المدرعة الجديدة البرمائية، كانت المرة الأولى التي نستخدم فيها هذه المركبات، وبدأنا تعلم السباحة في الماء بهذه المركبات في بحيرة قارون نهارًا، ثم التدرب ليلًا، ثم الرماية نهارًا أثناء العبور والرماية ليلًا، وهكذا كان الاستعداد لعبور قناة السويس.
ثم كانت المناورات الكبرى بالقوات والأسلحة على أحد أفرع النيل في دلتا مصر. كل ذلك ونحن ننتظر اليوم الموعود لعبور قناة السويس، واقتحام خط بارليف في اتجاه سيناء الحبيبة، ورفع العَلَم المصرى فوق أرض الفيروز، وجاءت لحظة يوم السادس من أكتوبر 1973، وشاهدت أحداث الحرب من خلال غرفة عمليات القوات المسلحة، حيث كنت أصغر ضابط في هذا المركز.
وعرضت خلال كتابى هذا جميع اللحظات وأحداث هذه الحرب، منذ وصول الرئيس السادات بزيه العسكرى في الثانية عشرة ظهرًا ليتابع بدء أعمال القتال والضربة الجوية، وأتذكر أنه بعد نجاح الضربة الجوية، قام المشير أحمد إسماعيل بإبلاغ الرئيس السادات باستشهاد شقيقه، الطيار عاطف السادات، ضمن قوات الضربة الجوية، خلال مهاجمته مطار المليز الإسرائيلى.
وتمضى أجمل اللحظات ونحن نتلقى بلاغات سقوط نقاط خط بارليف، ورفع العَلَم المصرى على أرض سيناء، ثم فتح رجال المهندسين الساتر الترابى، ثم نزول الكبارى، في الوقت الذي نجحت فيه فرق المشاة الخمسة في عبور القناة، وصد احتياطيات العدو المدرعة الإسرائيلية، والكل متشبث بأرض سيناء، وبدأ عبور الدبابات والمدفعية إلى الضفة الشرقية للقناة، وعمل رأس الكوبرى للفرق الخمسة، وأصبح لدينا 300000 مقاتل على الضفة الشرقية للقناة، ونجح حائط الصواريخ المصرى في منع الطائرات الإسرائيلية من التدخل في عملية العبور.
وجاء يوم 14 أكتوبر، حيث قامت القوات الجوية بتنفيذ أهم المعارك في التاريخ الحديث، معركة المنصورة الجوية، 200 طائرة، في قتال لمدة 53 دقيقة. 120 طائرة إسرائيلية من الفانتوم والسكاى هوك من أحدث أنواع الطائرات في العالم، أمام 80 طائرة ميج 21، والسوخوى، التي صُنعت في الخمسينيات من ذلك العصر، وتنجح القوات الجوية في إسقاط 17 طائرة، وفقدنا خمس طائرات، منها اثنتان لنفاد الوقود. وتُختتم هذه الحرب بمعركة السويس، التي منعت الجيش الإسرائيلى من دخول المدينة، وهى معركة عظيمة يذكرها التاريخ من أبناء المقاومة الشعبية ورجال القوات المسلحة.
وكان أكبر شاهد على ذلك الدبابات الإسرائيلية المحترقة في مدخل مدينة السويس، وهكذا عرضت في ذلك الكتاب أحداث هذه الحرب، حيث كنت شاهدًا على حرب أكتوبر 73- الرائد سمير فرج، أحد أبناء العسكرية المصرية.
ولعل أهم ما عرضته في هذا الكتاب هو مناظرتى، التي تمت على شاشات قناة BBC في إنجلترا، مع جنرال شارون، وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق، حول معركة أكتوبر 1973، ولعل أهم ما جاء في هذه المناظرة ليس حصولى على ثمانى نقاط من معهد الدراسات والاستراتيجيات، الذي كان يحكم على هذه المناظرة،
وحصول شارون على 4 درجات، لكن أهم ما جاء في هذه المناظرة هو إجابة الجنرال شارون عن سؤال من جانب معهد الدراسات الاستراتيجية: ما أهم مفاجأة قدمها المصريون في هذه الحرب؟، وكانت إجابته واضحة ومفاجئة: هي الجندى المصرى الجديد الذي قابلته في تلك الحرب، لم يكن ذلك الذي قابلته في حربى 56 و67، هذا الجندى المقاتل الشجاع.
حيث حكى إن ثمانية جنود من الكوماندوز وقفوا أمام عشر دبابات إسرائيلية، وهم متأكدون من استشهادهم، وأضاف أنه يجب على جيش الدفاع الإسرائيلى أن يعرف أنه في أي حرب قادمة سيقابل جنديًّا مصريًّا جديدًا لم يقابله من قبل، وهكذا يصبح هذا الكتاب هو وثيقة عامة تقدم للقارئ المصرى ما حدث في حرب 1973.