محمد قدرى حلاوة يكتب: ” كازوزة “

بيان

 

( ١ )

كان وجهه الممتلئ بالبثور يلوح كل صباح من بين سياج قضبان الحديد الصدئة وقد شرع شباك البدروم.. يأخذ في مراقبة الطريق بنظراته النارية وقد برزت شعيرات بيضاء مهوشة انتصبت فوق صلعته المحمرة.. يلقي أعقاب السجائر من بين طيات النافذة على التراب حينا.. يسعل ويبصق أحيانا أخرى.. يلقى تحيات الصباح تارة.. وربما لعنات وسباب مقيت مصحوبا بتشويحات اليد ونفر العروق وأحمرار الوجه ورذاذ الفم فينة ثانية كلما لمحنا نلعب الكرة وننثر الغبار حول نافذته أو نثير الضجيج..

عصر كل يوم.. يخرج من باب البناية المتداعية مرتديا “فانلة” مليئة بالثقوب وبنطال “بيجاما” منفوش.. كان مظهره مضحكا نوعا ما.. لكن ماضيه الذي يتحاكي عنه الرواة بأنه كان فتوة و شقي كان جديرا باخراس الألسنة.. يقبض بيده على “خرطوم” المياه المتصل “بحنفية” الحريق ويأخذ في الري حول “ثلاجة الكازوزة” المعدنية.. يرتب الزجاجات بعناية ثم يضع فوقها قالبا من الثلج الملفوف بقطعة من الخيش السميك .. بعدها يجلس على كرسي من الخوص لاهثا مجففا قطرات العرق المنهدلة على جبينه بمنديل قماشي لونه قد استحال إلى الصفرة..

الراديو “الترانزستور” مؤشره متوقف دائما على اذاعة أم كلثوم.. فقط في تمام السابعة مساء كل جمعة ينتقل المؤشر الي إذاعة البرنامج العام.. فهمي عمر يعلق على نتائج الدوري العام.. عم سيد مشجع عتيد لنادي الترسانة.. صور الشاذلي و مصطفى رياض و حسن علي المعلقة خلفه على الحائط تشي بذلك.. يتذكر أهل الحارة بواكير يونيو – حزيران عام ١٩٦٣.. الترسانة بطلا للدوري.. ثمل الجميع من قوارير “السي كولا” و “الكوكا كولا و أسباتس”.. ربما كان اليوم الوحيد الذي لمحوا فيه عم سيد يبتسم.. يضحك.. يرقص.. يوزع المثلجات مجانا.. كيف يمكن لتلك المستديرة أن تكون سببا لكل تلك المشاعر المتضاربة؟.. فرح.. حزن.. تعصب.. جنون.. شغف.. ما أبدعها من ساحرة تبيع الوهم للجماهير !!.

في الشتاء يختفي عم سيد متواريا عن الأنظار.. النافذة مغلقة..”الثلاجة” المعدنية رابضة أمام المنزل ملفوفة بسلسلة معدنية ضخمة.. لا أحد يعلم أين يذهب ومن أين يعود.. ولا من يجرؤ على السؤال أيضا.. وحيدا هو دائما بلا زوجة ولا أبناء ولا أصدقاء.

يقول بعض العالمين ببواطن الأمور.. أنه يجوب ربوع مصر شبرا شبرا ملازما أهل الخطوة والوصول.. من مولد الي أخر ومن ضريح صوب ثان.. يقسم بعضهم أنهم شاهدوه ملتحيا معمما متلحفا جلبابا صوفيا أسود.. مترنحا ساكرا في حلقات الذكر حتى يسقط هاويا على الأرض.. عله يكفر عن جرائمه أيام الشقاوة يقول أحدهم.. يضيف آخرون أن له زوجة ونسل كثير يقيمون في بقعة غير معلومة من أرض الله وبلاد الله.. “هتلاقي عليه تار وخايف على مراته وعياله”.. يفسر ثالث.

( ٢ )

هلّ صيف العام ١٩٧٨..أعتزل الشاذلي و مصطفى رياض الكرة.. زار السادات القدس بحثا عن السلام.. لاحت ملامح الفتنة الطائفية وبروز جماعات التطرف.. تمزقت وبلت صور لاعبي الترسانة على حائط المنزل بفعل أمطار الشتاء الغاضب.. جراء صغيرة تتخذ من الثلاجة المعدنية سكنا ومن قطعة الخيش دثارا.. لم يعد عم سيد ثانية أبدا.

كان حتما أن يكسر صاحب البيت الباب المغلق المعلق عليه قفل حديدي كبير بحضور رجال الشرطة.. لم يجدوا كثير أغراض سوي صناديق زجاجات المثلجات الفارغة.. سريرا رثا مستندا على قوالب الطوب..” بابور” و ” براد” شاي يعلوهما السخام.. سيفا حديديا كبيرا معلقا على الحائط.. ” مدية قرن غزال” مندسة تحت الوسادة.. هكذا أثبتت محاضر الشرطة..

أزيلت ” الثلاجة” الحديدية بفعل أحد ما.. انتشرت بالحارة الثلاجات الكهربائية وقد ارتصت بداخلها زجاجات ” السبورت كولا ” و” السفن أب ” و ” الميرندا”.. أصبحت أغطية زجاجات ” الكازوزة” التي نلهو بها نادرة وعزيزة.. كان للحفاظ عليها يمنح فرصة كبيرة للفوز بالمسابقات التي تملأ اللوحات الإعلانية المتلألأة.. يتوسطها لافتة ضخمة للرئيس الراحل ” السادات” مرتديا النظارة الشمسية باسطا يده هاشا مبتسما ومكتوبا عليها بخط بارز ” معا نحو الرخاء”.

الساكن الجديد وعائلته لعلهم لا شئ يميزهم أو شئ وحادث يروي عنهم.. لا يختلطون بأحد.. مواعيد منتظمة في الخروج والعودة.. نافذة مغلقة دائما.. وأضواء باهتة تتسلل ليلا.. اختفت سيرة ” عم سيد” اللهم سوي بضعة همسات غير يقينية تقول أنه مات على فراشه بهدوء وسكينة تتناقض مع حياته الصاخبة.. صلي عليه في جنازته آلافا مؤلفة.. صار البعض من أهل الطريقة يحتفل بذكراه.. ” سمعت أنهم هيعملوله مزار”.. قال أحدهم..ربما نحن لا نتذكر من كراماته شيئا سوي أغطية ” الكازوزة” المتناثرة حوله..وبعض لعنات السباب الساربة في الفضاء.. وصوت سعال يصفر في الأذان.. وبصقات لعلها مازالت معلقة على الحائط.

اقرأ أيضا للكاتب:

قد يعرض Bard معلومات غير دقيقة

زر الذهاب إلى الأعلى