محمد قدرى حلاوة يكتب: الضريح
بيان
لم يكن قد مضى على وفاة الشيخ الجليل وقتًا طويلاً حتى بدأت تنتشر حوله الأقاويل والحكايات.. كان صاحب كرامات كما شاع في أحاديث السمر.. تحدث البعض أنهم رأوه يسير ليلًا في طرقات القرية وقد أحاطته هالة من نور وأقسم آخرون أنه كان يرفرف حوله طيور بيضاء لم يروا لها شبيها من قبل.. ونسجت حوله الأساطير وصدقها البسطاء وآمنوا بها وصارت من مسلمات اليقين..
لاحظ أهل القرية أن كثيرون من القرى المجاورة قد بدأوا يتوافدون على قبره بأعداد كبيرة يحملون النذور والشموع ويتوسلون له بقضاء الحاجات وشفاء الأمراض وحل ما استعصى من ملمات.. وانتشر السائلون والمتسولون والباعة الجائلون حول قبره وصارت الأعداد في ازدياد والوفود في ازدياد وخاف حكماء القرية من الفوضى وانعدام النظام واضطراب الأحوال..
اقترح حكماء القرية أن يبنوا لصاحب الكرامات ضريحًا ويخصصوا للضريح خدمًا وسدنة يجمعون النذور ويرشدون الجموع الوافدة ويفرضون شيئًا من النظام وسط الفوضى الضاربة التي استجدت على قريتهم وسلبت وداعتها وسكينتها.. وبالفعل بنوا الضريح ووقف الخدم والسدنة يرشدون الحضور ويجمعون النذور ويمنعون كل ما يكدر صفو العادات والمألوفات..
بعد بضعة أعوام لاحظ الحكماء قلة عدد وفود الزائرين وانتابهم القلق.. وعندما بحثوا في الأسباب تناهى إلى سمعهم أن هناك صاحب كرامات آخر ظهر في قرية مجاورة تحاكي الرواة عن معجزاته وخوارقه فأنصرفت جموع الزائرين راحلة إليه لاجئة إلى ضريحه ومزاره.. ولم يكن الأمر يحتمل الهزل أو يمكن أن يمر مرور الكرام.. فقد كان وجه قريتهم قد تغير كليًا نتاج منافع الزائرين وراجت التجارة وتخلقت طبقة من الخدم والأدعياء والمنتفعين صار من العسير عليهم تصور انقطاع روافد الخيرات والقطوف.. كان الأمر يتطلب حكمة الكبراء وقرائح الناهلين من رحيق الثمرات اليانعة الدانية..
ظهرت لصاحب الضريح كرامات جديدة.. “انهمر الغيث على القرية بعد طول جدب بعد أن ظهر الشيخ الجليل في القرية يجول ليلًا بهالته النورانية” قال قائل.. “ظهر الثمر وطاب الجني في قطعة أرض جدباء بعد أن مر بها الشيخ” قال آخر..
و على هذا المنوال صارت الأقاويل وشاعت الحكايات.. وكان أكثرها رعبا رواية قالت أن الشيخ الجليل غاضب وساخط من زواره الهاجرين ومن رواده النائين عنه.. وذاعت الروايات في القرى المجاورة ورددها القاصي والداني.. وعادت الوفود تتراءى وأتى الزائرون كالسيل من كل حدب وصوب يطلبون ويتوسلون ويأملون من جديد وفاضت النذور ونحرت القرابين..
ومضت الأساطير والخوارق نبعًا لنهر الخير الجاري في القرية وبدا بالفعل أن وجه القرية قد تغير.. وان كانت الحقيقة أن أوجه الكبراء والخدم والسدنة هي من تغيرت وبدت عليها نضرة النعم وآثار الرفاه.. وظلت أوجه الفقراء ذابلة مصفرة كالحة تنتظر أن يهبها صاحب الكرامات من فضله ويمنحها من نعمائه وهم يلامسون ويقبلون أركان الضريح كل يوم ناشرين بين يديه ما تيسر لهم من النذور..