محمد قدرى حلاوة يكتب: الأحلام الموؤدة
(1)
صباح نهار بارد في يناير ١٩٩١.. كنت قد أنهيت لتوي فترة أداء الخدمة العسكرية.. ذهبت إلى ميدان “روكسي” لشراء جرائد الصباح والجلوس لبعض الوقت على “المقهى” المفضل لدي بأحد الشوارع الجانبية.. كان “المقهى” يبدو خاليًا سوى من رجل وحيد يجلس في ركن قصي يحتسي فنجانًا من القهوة وينفث دخان “الشيشة” وقد وضع الراديو “الترانزستور” بالقرب من أذنيه وأخذ يقلب قنواته باهتمام شديد.. بينما يصدر أزيز موجات الأثير مختلطًا ببعض الموسيقى إلى أن توقف عند دقات ساعة “بيج بن” معلنة بداية نشرة الساعة السادسة صباحًا بتوقيت “جرينتش” الثامنة بتوقيت القاهرة..
ألقيت تحية الصباح على عم “ورداني” عامل القهوة العجوز.. رد على التحية باقتضاب وقد صوب بصره نحو شاشة التلفاز القديم متابعًا نشرة أخبار قناة “السي إن إن” الأمريكية.. وكان التلفاز يبث صورة باهتة الألوان فقط بينما الصوت صامت.. وعلى أية حال فقد كان المعلق يبث تقريره باللغة الإنجليزية ويبدو أن عم “ورداني” قد اكتفى بمتابعة الصورة فقط..
أتى إلى عم “ورداني” بكوب الشاي “على بوستة” المعتاد.. كان يعرف طلبي بحكم علاقة صداقة قديمة نشأت معه منذ أيام “التزويغ” من المدرسة مرورًا بسنوات الكلية وصولًا إلى أمسيات السهر في إجازات الخدمة العسكرية.. كان ضخم الجثة ذو انحناءة خفيفة (لم تكن تبدو عليه في سنوات المعرفة الأولى) كأن كاهله قد كل من أثقال الحياة واستسلم لأحكامها.. أسمر الوجه.. منحوت الملامح كتمثال فرعوني قديم.. وقد انتشرت في وجهه بعض “الحسنات” وانتثرت هنا وهناك.. يرتدي ملابس بسيطة لا يميزها سوى قبعة صوفية تشبه القبعات التي كان يعتمرها القادة “السوفييت”.. وكنا نطلق عليه ساخرين الرفيق “ورداني”.. قال لي بحزن وهو يقلب الشاي على منضدة “الصاج” الصغيرة “هدموا العراق ولاد الكلب”…
كان القصف الأمريكي (وما سمي حينها قوات التحالف) قد بدأ ينهمر على أرض بغداد والموصل والبصرة وكافة أرجاء الأرض التي علمت الإنسان الحرف والكتابة ومضت تحمل مع غيرها من مدن العالم القديم راية الحضارة والتاريخ.. مرت الأحداث سريعًا منذ الثاني من أغسطس ١٩٩٠ حين اجتاحت القوات العراقية الأراضي الكويتية حتى بداية القصف وما أطلق عليه “تحرير الكويت” فجر السابع عشر من يناير ١٩٩١.. مررت بفترة من الخوف والقلق الشديد حين أعلنت مصر مشاركتها بجانب قوات التحالف في العمليات العسكرية.. هل يتم استدعاء كتيبتي للمشاركة في الحرب؟.. ومن أقاتل حينها إذا؟.. الجيش العراقي صاحب البطولات في هضبة “الجولان” عام ١٩٧٣؟.. أقاتل العراق الذي هاجر إليه ملايين المصريين وعملوا به ونهلوا من خيره؟.. وهل هناك ملامح أو سمات مميزة للعدو يمكنك أن تفرق بها بين العراقي والمصري والكويتي؟.. حمدت الله عندما انتهت فترة أداء الخدمة العسكرية في ديسمبر ١٩٩٠ ولم أتورط في حرب الجميع فيها خاسر ما عدا بالطبع راعيها وداعيها ومشعلها.. “العم سام” بقيادة “المخلص” “جورج بوش الأب”
(لم نكن نعلم حينها بالطبع أن هناك جولة جديدة أكثر خرابًا ودموية سيقودها هذه المرة جورج دبليو بوش “الابن”.. ونتمنى ألا يطيل الله في أعمارنا لنرى جولة جديدة على يد جورج بوش الحفيد)..
(2)
اشتد المطر بالخارج وأغلق عم “ورداني” الباب الزجاجي جزئيًا ووقف ينظر إلى المطر بالخارج وهو يسيل على الزجاج كالدموع الساقطة من المقل.
تقدم نحوي الرجل الوحيد الجالس في “الركن” وقال لي بلهجة لطيفة “تسمح لي الجرنال”..
كانت عيناي شاخصتان نحو التلفاز أتابع صورة المؤتمر الصحفي للجنرال “شوارتزكوف” قائد قوات التحالف ويقف معه الأمير “خالد بن سلطان” قائد القوات العربية ومعهم المقدم “أحمد الربيعان” المتحدث باسم قوات التحالف (العرب بارعون في خداع الذات بالألقاب الفخمة والعناوين العريضة.. كانت الصور الملتقطة والألقاب الجزلة لا تخفي حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الفاعل الحقيقي في الأمر والآمر الناهي).
طويت الجريدة في يدي وناولتها إياه بابتسامة مهذبة.. ووجدته يقول لي “متصدقش كل اللي بتشوفه ولا حتى اللي بتقرآه.. العراق كده.. كده.. هيتدمر.. مسألتش نفسك سؤال.. هوه ليه السي إن إن بتبث بث أرضى مجاني لينا.. بيحبونا مثلا؟ عايزنا نعرف الحقيقة؟.. أبدا ده علشان نتبني وجهة نظرهم في الحرب.. ونشوف العراق بيتدمر ونقول ياسلام على الدقة.. يا سلام على الإنسانية” (ما أن انتهت الحرب حتى صار البث مقابل اشتراك مع حزمة من القنوات التي تنشر الثقافة الأمريكية).
دعوته للجلوس فأستجاب ببساطة وتعارفنا بسرعة ودار بيننا حديثًا طويلاً.
كان أستاذ شاكر رجلاً ستينياً أحيل إلى المعاش منذ سنة واحدة.
طويل القامة نحيل الجسد.. يضع على عينيه نظارات طبية سميكة بدا من دوائر عدساتها كأن حدقة عينيه قد سقطت غائرة في جب عميق.. وقد امتلأ وجهه “بالحفر” لاح أنها من آثار بثور إصابة قديمة “بالجدري” .. أشيب الشعر يرتدي معطفًا طويلاً ورابطة عنق.
كان من رجال التربية والتعليم يدرس مادة اللغة الإنجليزية.
حدثني قائلاً: “أنا لفيت بلاد العرب.. سافرت سنة ١٩٦٠ سوريا.. كان إسمها القطر الشمالي _ قالها بابتسامة غامضة لا تدري هل هي سخرية أم أسف أم خليط بين هذا وذاك _.. مكملناش سنة وحصل الإنفصال.. كانت أيام.. المشاعر فيها فوارة وطاغية علينا.. تخيل كده العرب تتوحد.. أكيد الفكرة كانت صح.. حتى لو التطبيق كان غلط “..
أخذ يحاول لاهثًا إيقاد جمر “الشيشة” الخامد ثم نادي على “عم ورداني” بعد أن يأس “ولعة يا ورداني “..
(شردت حينها بخاطري عن لعبة كنا نلعبها ونحن صغار _ لعبة مصر _ سوريا _ حيث يقف شخصان متواجهان على خط مستقيم ٠ كل فرد قدمه ملاصقة للأخري أحدهما يتقدم خطوة ناطقا مصر… ويفعل الآخر نفس فعله ناطقا سوريا.. و الفائز هو من يطأ “يدوس” على قدم الآخر.. وكثيرا ما تسائلت هل من الضروري أن يطأ أحدنا قدم الآخر وأن يفوز عليه؟.. هل كان هناك ثمة شكل آخر للعبة يعبر عن الوحدة دون أن يعلن أحدهما إنتصاره على الآخر ويطأ قدمه؟)
واصل حديثه بعد أن رشف رشفة من كوب الماء “كان زمن أحلام عريضة.. رحت بعد كده على ليبيا سنة ١٩٧٢..وحصل اللي حصل بين السادات و القذافي.. عارف القذافي ده اللي بيسموه الأخ العقيد دلوقتي.. مصطفى حسين (رسام الكاريكاتير الشهير) كان بيرسمه زمان قاعد بيقضي حاجته على “قصرية” .. مش بأقولك متصدقش اللي بتشوفه ولا بتقراه.. ”
استغرق الأستاذ شاكر في أفكاره شاردا لفترة وجيزة ثم أستطرد قائلا” سنة ١٩٧٩ رحت السعودية..كنت رحتها زمان سنة ١٩٦١ أعمل عمرة.. إتنقلت نقلة تانية خالص.. البترول غير كل حاجة.. الدم اللي سال في ١٩٧٣ غير كل حاجة.. عربيات إيه وشوارع إيه ومباني إيه !!.. مكملتش هناك كتير رحت العراق سنة ١٩٨٢..هناك تحس إنك بين أهلك وأخواتك.. على فكرة العراقيين مثقفين جدا.. وبيعشقوا المصريين.. مكنش معكر علىنا الحياة غير صواريخ إيران لما كانت بتسقط علينا..” وتنهد قائلا :” إيه أيام.. مش عارف لو كنت هناك دلوقتي كنت هأعمل إيه.. الله يكون في عونهم”..
(٣)
نبأ عاجل على الشاشة “العراق يقصف تل أبيب بصواريخ سكود وأنباء عن سقوط ضحايا”.. هلل “عم ورداني” _ بعد أن شرح له الأستاذ شاكر المكتوب بالإنجليزية _ “أيوه كده يا صدام.. إديهم على دماغهم”.. عاد “عم ورداني” شابًا متورد الوجه متحمسًا وقد اختفت انحناءة ظهره الخفيفة _ أو هكذا بدا لي _ ووجه حديثه لنا قائلاً :”هما لو ييجوا لنا على الأرض كده راجل لراجل.. صدام يفرمهم”..
أخذ الأستاذ “شاكر” يشرح له أساليب الحرب الحديثة وأن الأمريكيين لن يخاطروا بجيوشهم في حرب برية حتى لا تتفاقم خسائرهم وسيعتمدون على القصف الجوي بالقنابل الذكية.. وهنا قاطعه “عم ورداني” قائلاً : “هوه فيه قنابل ذكية وغبية يا أستاذ.. كله موت وخراب ديار”.. أحيانًا ما ينطق البسطاء بالحكمة السائغة بعيدًا عن تحذلقاتنا نحن المثقفين المأسورين في أغلال الثقافة الغربية وابتكاراتها التي لا تنتهي.. واستطرد “عم ورداني” قائلاً : “تفتكر العراق هينتصر يا أستاذ؟ “.. أجاب الأستاذ “شاكر” بهدوء” العراق خارج من حرب بقاله ٨ سنين مع إيران.. واقتصاده متدمر.. ده غير الحصار المفروض عليه.. العراق مش هيتساب يا راجل يا طيب.. إنت عايز بلد عربي عنده كل السلاح ده وكيماوي وبيفكر في النووي ويتساب..”..
قال “عم ورداني” :”هوه صدام غلط صحيح.. بس يعني مكانش فيه حل غير الحرب؟.. وبعدين إزاي نحاربه وإحنا متحالفين معاه؟ “..( كان هناك مجلس أنشئ في عام ١٩٨٩ اسمه مجلس التعاون العربي ضم مصر والعراق والأردن واليمن في فترة حزينة من الزمن كانت مصر فيها تبحث عن دور مفقود تنازلت عنه بإرادتها في السبعينييات من القرن الماضي .. وإنشغلت في تلك الفترة بطرح سؤال الهوية.. هل نحن مصريون فقط؟ هل نحن عرب؟ أم مواطنون شرق أوسطيون؟.. وفي إحد أعراض ومظاهر المرض المستفحل في جسد الكينونة والوجود والدور بدت بعض التشنجات الارتعادية المفاجئة والمصاحبة لارتفاع حرارة الداء انضمت مصر للمنظمة الفرانكفونية _ وهي منظمة تجمع الشعوب الناطقة باللغة الفرنسية!!!!.. على أي حال فقد أنفض مجلس التعاون العربي سريعًا).. أجابه الأستاذ “شاكر” بلطف محاولاً السيطرة على حماسه “مكانش حد هيسمح بالحل ده.. لاحظ إن المجلس اللي أنت بتتكلم عليه ده معملش أي حاجة ولا خد أي قرار غير بس شوية الصور اللي الرؤساء خدوها مع بعض.. سيبك من الأغاني السخيفة اللي طلعت أيامها.. لو بالأغاني كان زمانا أقوى شعوب العالم… ثم إن مصر وقفت مع الحرب.. واليمن والأردن وقفوا ضدها.. ده حتى الملك حسين _ العاهل الأردني الراحل _ ربي دقنه وسمي نفسه الشريف حسين.. جده وعمه وجد جده سبب كبير في اللي كلنا فيه دلوقتي بس الناس بتنسي.. البترول دلوقتي هوه اللي بيقود العالم.. هيه لو الكويت دي مكانش فيها بترول كان حد هيبص لها أصلا.. “..
كان المطر قد توقف واتجه “عم ورداني” ليفتح الباب الزجاجي وأخذ ينزح الماء المجتمع “بممسحة” عريضة.. وتسللت نسمات الهواء البارد النقي لتهدئ وقع الحوار والمشاعر الملتهبة بينما الأستاذ “شاكر” يحكم أزرار معطفه..
(٤)
بعد شهور التقيت الأستاذ “شاكر” ثانية في قيظ يوليو الحار.. شعرت بصداقة حميمة تربطني بالرجل رغم اللقاء الوحيد.. كنت قد أخذت بنصيحته ولم أعد أصدق كل ما أقرأ أو أرى.. أفسحت الرؤى السائدة المعلبة النمطية المجال منزوية تاركة الساحة للرؤية الناقدة والبصيرة المتشككة.. تجاذبنا أطراف الحديث ببساطة بعد عبارات الترحيب المعتادة كأننا نوصل ما انقطع ونمد ما انطوى.. أتى “عم ورداني” بأكواب “العناب” المثلج وقد ازدادت انحناءته قليلاً بينما المروحة العتيقة تصفر في السقف.. وقال الأستاذ “شاكر” وخيوط الدخان تلتف في الهواء ضائعة متلاشية ككل الأحلام الموؤدة “للأسف كل اللي قلناه حصل. والدنيا كمان رايحة للأسوأ.. كارثة إن قوة وحيدة تقود العالم _ كانت بوادر انحلال الاتحاد السوفييتي قد لاحت وأذنت شمسه بالغروب _ والكارثة الأكبر إنك تفضل كده مستسلم مش قادر تغير أي حاجة من المعادلة.. اللي زينا بيعاني. أنا عشت زمن الوحدة.. زمن الأحلام الكبيرة.. ودلوقتي شايف الحلم بيتكسر حواليا ميت حتة.. هوه مش الكويت إتحررت؟.. إيه اللي لسه بيحصل في العراق ده ولغاية إمتى؟.. المصيبة إن الكل ساكت.. إنت عارف يعني إيه يصيبنا الخرس”.. تحدثنا قليلاً عن تطورات الحرب وما حدث فيها..” طريق الموت” ..” ملجأ العامرية”.. و.. و.. وقال الأستاذ “شاكر” وهو يخرج منديلاً قماشياً عريضاً يمسح به قطرات العرق التي تنز من جبينه” كل ده مقصود.. كل ده درس لأي حد يحاول يخرج من الصف.. هندمرك.. هنساويك بالأرض.. مدنيين بقى مش مدنيين مش مهم.. محدش هيحاسبهم.. بس أصل الغضب بذرة.. و البذرة مسيرها تكبر وتطرح” ..
غادرت الأستاذ “شاكر” ومشاعر غريبة تخالطني نحو جيل “الستينات”.. لم يكن يفصلنا عن هذا الجيل سوى بضعة عقود أو سنوات.. شعرت دوماً بأحاسيس ملتبسة للغاية تجاههم.. أحياناً ما أشعر بالمودة والتقدير لأحلامهم وعصرهم فقد كانوا نبلاء حقاً.. صادقين بشدة.. آمنوا بغايات وأهداف نبيلة وإن ضلوا إليها السبل أو تقطعت بهم.. حاولوا وناضلوا وضحوا تضحيات حقيقية.. وأحياناً أخرى ما أشعر بالغضب والسخط منهم.. فقد جسدوا لنا أحلاماً وآمالاً سامقة.. لم تجد سبيلاً لتتجسد واقعاً.. كنا نحن الجيل الذي خبر مذاق الأصالة والمعاني والقيم الأصيلة وإرتشفنا آخر قطرات من ذاك النبع الصافي.. لم نستطع أن نستسيغ من بعده طعم المرارة والعلقم والخفة للأجيال التي أتت من بعدنا.. وقفنا في هجير المنتصف المميت تائهين ضائعين.. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. نطل من شرفة الأحلام على أضغاث لن تتحقق أبداً وتصفعنا الحقيقة بجفاء وصلافة الواقع.. لكننا لا نملك سوى أن نحبهم ونجلهم فنحن نعلم أنهم الأصدق والأوفي والأنبل من كل الضلالات وتجار الأحلام والنخاسة الذين أتوا من بعدهم…
إنطلقت في طريقي نحو المنزل منتظراً قدوم “المترو” واضعاً سماعات “الووكمان” على أذني وصوت “منير” ينطلق على وقع دقات الطبول صافعا محذرا :
” يا معلقين على المراجيح..
والحبل مستورد فاخر..
ليلتنا فاتت زي الريح..
ماهي كل حاجة وليها آخر..
بس الحقيقة المذهلة..
إن الجميع في السلسلة..
وفي الرقاب يا معلمين..
أحبال قطيفة مدلدلة “..