محمد قدرى حلاوة يكتب: حنين

بيان

(١)

سبتمبر ١٩٧٦.. بضعة قطرات من الدم سقطت على الأرض.. وصوت بكاء طفل صغير.. جرح غائر في إصبع اليد من ” الفانوس” “الصفيح”.. سقط الفانوس على الأرض ومالت ” الشمعة” على جانبها وإنطفأ الفتيل.. كان البكاء والجزع خوفا من تحطم “الفانوس” أكثر من وقع آلام الجرح المفتوح.. تفقد ” الفانوس” بيده الأخرى.. كان الضرر غير جسيم.. فقط تلف في بابه.. وإنطباق رأسه المعدني.. يسهل إصلاح إعوجاجه..

” غرزتين” فى الإصبع وحقنة ” تيتانوس ” تحرزا من التلوث.. قال الطبيب وهو يقطب الجرح ويلاطف الطفل الباكي” خد بالك المرة الجاية.. الحمد لله جت على خير المرة دي.. “حبة من المسكن وارت الألم لبعض الوقت.. ربطة ” الشاش” حول الجرح أعاقت حركة اليد قليلا.

قطعة من اللاصق نجحت في إغلاق باب” الفانوس” وبعض الطرق البسيط أصلح الإنطباق.. عادت ” الشمعة” تنشر أطياف الضوء المنعكس من زجاج ” الفانوس ” الملون.. لاحظ شرخ بسيط في الزجاج.. البهجة كفيلة بنسيان الألم والتشوهات الطارئة.. إنها تداوي شروخ الروح.. فهل تبقى عاجزة عن مواراة ذاك الشرخ الزجاجي البسيط؟.. ندبة تكاد لا تبدو على الإصبع.. وحده يلمحها.. يعرفها.. يتذكرها.. كلما نظر إليها ردد داخله بخفوت:

وحوي يا وحوي.. إياحه ..
رحت يا شعبان.. إياحه..
وحوينا الدار.. جيت يا رمضان..
وحوي يا وحوي.. إياحه

من الندوب ما يثير الشوق والحنين.. يرحل الألم وتعصف الذكرى.. لا تبقي سوي اللحظات الحميمة.. البدايات.. الشغف.. الدهشة.. أطياف الضوء الخافت في ظلمة الروح المهلكة..

(٢)

لها عادات لا تنقطع.. في الصباح تطل من خلف الشباك الخشبي الأخضر.. تشرق من خلفه لا تخلف موعدها كما الشمس.. صحبة واحدة تعلن نهار جديد.. تروى بعض الزروع والورود على الحافة.. تتمايل الأفرع الخضر مع شعرها المتهدل على جبين النهار.. يتطاير مع نسمات الهواء.. تزيح الأتربة برفق عن الأصص المتراصة.. ثوبها الوردي يطغى على لون الورود الزاهية.. أي عبق أمضى وأبقى؟.. النحل يحوم حول الرحيق…والروح تهيم من حولها.. أغلقت النافذة.. في إنتظار صباح جديد.. رواء الزرع والروح..
الخامسة مساء كل يوم.. تجلس في الشرفة.. تضبط مؤشر ” الراديو” على إذاعة أم كلثوم:

” أنت يا جنة حبي وإشتياقي وجنوني..
أنت يا قبلة روحي وإنطلاقي وشجوني..
أغدا تشرق أضوائك في ليل عيوني..
آه من فرحة أحلامي.. ومن خوف ظنوني..
كم أناديك وفي لحني.. حنين ودعاء” ..

تنظر أمامها بعد أن ملت قليلا من خيط ” الكانفاه “.. مالت بيدها تعيد الخصلات المتمردة السابحة في الهواء…

” يا رجائي أنا.. كم عذبني طول الرجاء..
أنا لولا أنت.. أنت لم أحفل بمن.. راح وجاء..
أنا أحيا في غدي الآن.. بأحلام اللقاء..
فأتى أو لا تأتي.. أو فأفعل بقلبي ما تشاء”..

إلتقت العينان.. رأيت في عينيها مالا يروي ولا يحكي ولا يقص.. وبعض الرؤي لا تفسر.. صار اليوم ساعتين.. ساعة الصباح.. وساعة المساء.. صباح يليق بوجه الصباح.. ومساء يليق بوجه القمر.. أما عن باقي الساعات يا صديقي فلا تسل.. هل يعلم وطأة الانتظار سوي من يكابده؟..

( ٣ )

” مدفع الأفطار.. أضرب”.. لم أكن أعلم من أين تأتي تلك الصيحة الجهيرة الزاعقة المتبوعة بصوت الفرقعة.. هل يقطن ضارب المدفع هذا داخل هذا الصندوق الخشبي العجيب ( الراديو) ؟.. “صوت الشيخ ” رفعت ” يرفع الآذان يتبعه هدوء عجيب يصيب الحارة فجأة.. أغلقت شباكها الأخضر.. فقط أصوات الملاعق والسكاكين والمرجل الكبير تنبعث من المائدة الممتدة بطول الحارة ( لم تكن موائد الرحمن قد أنتشرت بكثرة في تلك الفترة).. ” اللي عايز أي حاجة يا رجالة يقول”.. قال “المعلم زهدي” تاجر ” العلف” الكبير.. ” رجل البر والأحسان” هكذا تقول اللافتة المنصوبة بين أوراق ” زينة رمضان”..

ابتهالات ” النقشبندي” تصل من ميكروفونات الميدان.. الأسرة متحلقة حول مائدة الأفطار.. ” سموا بالله يا ولاد “.. تقول الجدة وهي تصب الحساء من أناء كبير.. فوازير ” آمال فهمي “.. ” هات اللي عندك يازمن.. وزيد في عندك يازمن ” تشدو ” وردة” ايذانا بحلقة جديدة من مسلسل ” أفواه وأرانب “.. لابد أن تأتي النهاية سعيدة رغم الألم والشقاء.. أصوات ” البمب” تدوي في الحارة.. يتجه الكبار لصلاة ” التراويح” في مسجد ” السيدة زينب”.. بينما يقف الصغار على الخطوط البيضاء مهللين في مباريات الدورة ” الرمضانية ” المثيرة تحت رعاية ” الحاجة نوال عامر ” ( النائبة التاريخية في مجلس الشعب عن دائرة السيدة زينب لأكثر من دورة تشريعية).

تطفأ الأنوار.. تعود الحارة للهدوء.. موعد “السحور” قد أقترب.. نجلس على الرصيف وقد لفت أنتباهنا معركة حامية تدور بين ” كلب” و” قط “..” نباح” عال و ” مواء” متحفز.. تنفض المعركة دون دماء وقد مضى كل منهما لحال سبيله.. ” خالي مبروك جاب تلفزيون ملون وهينزل بيه مصر الأجازة الجاية.. قال” حسن” ..” يعني ماتشات الكورة هتبقى ملونة.. والممثلين كمان؟ ” تسائل” أشرف ” في دهشة.. كنت أرفع رأسي غائبا هناك أنظر نحو الأعلى.. فقد شرع الشباك الأخضر وبدا لناظري عالم آخر من الألوان والرؤى والأحلام.

اقرأ ايضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: المسرحية

محمد قدرى حلاوة يكتب: «الزر المفقود»

زر الذهاب إلى الأعلى