محمد قدرى حلاوة يكتب: المسرحية

بيان

(١)

فبراير عام ١٩٩٤.. رمضان ولياليه الحميمة.. رمضان في الشتاء له طعم خاص مميز.. تقصر ساعات الصيام ويقل تأثير الظمأ.. وتطول ساعات السهر.. هو حميم.. حبيب.. في كل الأحوال.. هل هناك ثمة أحداث تميز هذا العام؟.. بل عقد التسعينات بأكمله؟.. هل الرتابة والجمود والتيه والإنكسارات تصلح كعلامات بارزة في حياة الأفراد والشعوب؟… سنوات من الإنحدار.. تمر من العمر.. خصما منه وطرحا.. الحياة لا تتوقف من أجل الحمقي والغافلين.. عقودا تضاف إلى عمرك.. تنهبه.. تسلبه.. وأنت مقيدا.. مصلوبا.. بحبال الأمل الهشة أملا في غد يزيح حلكة الواقع المرير.

“العراق.. العراق.. ليس سوي العراق”

لم يكن قد مضى سوي ثلاثة أعوام على حرب تحرير الكويت ( في قول.. وحرب تدمير العراق في قول آخر).. ثلاثة سنوات من الحصار تطحن شعب العراق.. تحطمه.. تقتله.. في أجواء صمت متواطئ قبيح.. شعب كامل يتهاوي على الطرقات من الفقر والجوع والمرض.. إنها أحكام حضارتنا الإنسانية الجائرة.. البلاد التي علمت العالم الحرف والكتابة.. محرم عليها جلب الأقلام الرصاص تحرزا من الإستخدام المزدوج.. بأي قلم وريشة يكتب الجواهر والسياب والنواب مرثياتهم إذن؟..

” عيوننا إليك ترحل كل يوم..
تدور في أروقة المعابد..
تعانق الكنائس القديمة..
وتمسح الحزن عن المساجد.

أربعة شهور ونيف مرت علي أوهام سلام أوسلو.. الختيار ” عرفات” عاد إلى أرض المهد.. بشري ” غزة وأريحا أولا” لم يفطن سوي القليلون أنها أولا وآخرا.. لم تزعج أصواتهم الخافتة عرابي “السلام” ودعاته الزاعقين.. المتوسدين ميكروفونات المنصات الإعلامية والساحة السياسية.. لا فائدة من الحرب والصراع.. ذلك عصر ولي.. نحن الآن نحلق مع أضغاث ” الشرق الأوسط الجديد “.. فلتتوقف الإنتفاضة إذن.. وليركن أطفال الحجارة نحو الهدوء والصمت.. مر موكب الختيار في شوارع ” رام الله”.. أغصان الزيتون ترتفع في الشوارع.. تبا لهؤلاء معتنقي صرخة ” لا تصالح”.. ولكن ألم يمر ” المسيح” بتلك الشوارع من قبل؟.. “يهوذا” قادر على الحياة والخيانة في كل العصور..(&)

التلفاز يعرض تمثيلية ” أرابيسك”.. كنا في صبوة العمر لم نعلم بعد كيف ” ينفلت من بين إيدينا الزمان.. كأنه سحبة موس في أوتار كمان”.. لم نعي نزف العمر المارق على قارعة الأيام.. لم نستوعب ختل الزمان ومخادعته وهو يمر أمام ناظرينا بهدوء ماضيا بنا نحو الفناء.. مسلسل ” العائلة” رؤية زاعقة أخرى لمشكلة الإرهاب والتطرف.. من السهل أن تلقى المشكلة على عاتق التفسيرات المنحرفة للدين.. ومن العسير أن تشير إلى التحالفات القذرة للسياسة (&&).. والجذور والأسباب الإقتصادية والإجتماعية.. هل يمكن حل أية مشكلة حقا سوي بالعودة للمنبت والجذور؟..

(٢)

في سنوات العمل الأولى..تبدأ في إكتشاف عالم جديد.. هو ليس عالما آثيريا محلقا مثل سنوات الطفولة والصبا.. ليس المدرسة أو الجامعة تستطيع أن تختار من تصادق وتقترب أو من تتباعد عنه وتنأي.. أنت مضطر للتعامل مع الجميع.. تبدأ في تلمس الشخصيات والملامح والوجوه.. يسمونها الحياة العملية.. وهي في كينوتها علاقات المصالح وحكم الضرورة وإحتواء المكان.. قليلون من تستطيع أن تضعهم بثقة في مكانة الأصدقاء.. ثلة أخرى في خانة الزملاء.. كثيرون هم مجرد وجوه تمر وتعبر دون ملامح أو أثر..

أزعم أن ” عم سيد النجار” كان صديقي.. كان قصير القامة.. ضئيل الحجم.. أصلع الرأس من الأمام.. مهوش من خلفها.. دقيق الملامح.. قليل الكلام.. كثير الصمت.. ملابسه متهدلة بغير إعتناء.. السيجارة ” السوبر” متدلية من شفتيه لا تكاد تفارقها.. شعيرات بيضاء منبتة في لحيته.. عندما أردت أن أستعن به لتركيب ” كالون” فى شقتي الجديدة.. نبهني أحد الأصدقاء بلهجة أقرب إلى التحذير ” عم سيد نجار صنايعي شاطر جدا.. أنت تعرف إنه ممثل جامد جدا؟.. شفت له حاجة قبل كده؟ “.. شهرته ” سيد الدقن”.. أجبت بالنفي.. أستطرد صديقي قائلا ” هو عيبه الوحيد المواعيد.. بس فنان وأسطي.. أهم حاجة عنده المعاملة.. كرامته.. محدش يقدر ييجي عليه.. علشان كده ضاعت عليه فرص كتيرة في الوسط ( الفني).. عمره ما كان إبن سوق.. لا في شغله ولا في فنه “..

بعد بضعة مواعيد لم تتحقق.. صحبت عم سيد إلى مسكني.. أصر على دفع أجرة الأتوبيس.. لم أجادله كثيرا بعد أن تذكرت نصيحة صديقي.. ما إن وصلنا حتى أخذت في إعداد الشاي بينما” عم سيد ” منهمكا في معاينة الباب كأنه يقلب بين يديه جوهرة ثمينة.. كان” عم سيد ” من ذلك النوع من البشر قليل الحديث.. يقصر فيه ولا يطيل.. إلا أنه عندما يطمئن إليك ويأنس بك ينطلق في الحديث بلا توقف.. عندما سألته عن التمثيل.. قال وهو ينفث غبار سيجارته في الهواء منحني القامة يعمل “المفك” فى الباب مزيلا بعض قشور الخشب ” الفن ده هواية.. بأتنفسه زي الهواء ودخان السيجارة دي.. كان ممكن أبقى حاجة أكبر من كده بكتير… بس إنت متعرفش الوسط ده.. هات شاب مسبسب ولا عروسة متزوقة ومتلمعة.. وقول عليهم فنان ولا فنانة.. على شوية علاقات مع المنتجين والصحفيين.. على كام إعلان.. خلطة كده.. بس ماسخة لا ليها طعم ولا لون ولا ريحة.. وقول عليها فن.. وهتلاقي كتير يصدقك.. لما الناس بتاخد على طعم الحاجة الماسخة.. مبتحبهاش في الأول.. بعد كده بتتعود عليها.. شوية وتدور عليها وتلف وراها بالمشوار .. ده مش ذنب الناس.. ده ذنب اللي مسخ الطعم وأخدهم عليه”.

(٣)

دعاني صديق كريم * إلى حضور مسرحية ” أبو نظارة” للفنان الراحل ” سعيد صالح”.. المسرحية تتخذ من شخصية “يعقوب صنوع” ستارا لطرح رؤية ناقدة سياسية واضحة.. “صنوع” من رواد الفكر العربي الحديث وقت أن كانت مصر تسع وتحتضن للجميع.. يلجأ الفن إلى الإسقاط والمواربة حين يصبح ثمن التصريح باهظا ..عرضت المسرحية على مسرح “محمد فريد” بشارع “عماد الدين”.. هنا حيث مازالت تبدو بضعة آثار باهتة لتاريخ فني ثقافي تليد.. صار الشارع “فاترينة” عرض ضخمة لمحلات الآلات والمعدات.. كعادتنا الذميمة في تشويه كل قيمة وموضع وأثر.. يخال لي أحيانا أننا نملك من الآثار والتاريخ ما صار عبئا على كاهلنا.. يثقلنا.. نتخلص منه..نتبرأ.. ندمره.. هل لا نقدر حياة وتراث أجيالنا الأولى؟.. أم أن حقدنا وعجزنا عن أن نطاولهم يدفعنا لذلك؟.. ربما.

على أية حال.. بدأت المسرحية.. دخل الفنان الراحل “سعيد صالح” إلى خشبة المسرح وسط تصفيق حاد.. بعض “الإفيهات” والأغاني ذات المدلول السياسي الجلي كانت كفيلة بذيوع حالة من الحماس بين الجماهير وانتزاع ضحكاتهم وتصفيقهم.. بعد حين ولج “عم سيد” إلى خشبة المسرح.. بلا إحتفاء بين الجماهير.. تصفيق قليل قصير هادئ على سبيل المجاملة والعادة السائرة.. ما إن بدأ في الأداء حتى جذب الحضور نحوه كالساحر يسرق العقول والأفئدة والأبصار.. ضحكات مجنونة وصرخات إعجاب.. تصفيق يلهب الأكف.. تنقل بين الكوميديا والدراما لا يخلو من الإرتجال بتمكن وحرفية شديدة “وحش مسرح” .. “سعيد صالح” يصفق مع الجماهير.

لا أزعم ولا أدعي ولا أجرؤ أو أتجاسر على النقد الفني.. وإن كنت أستطيع القول بإطمئنان أن المسرح هو المختبر الحقيقي للفنان.. الأداء مشهد لمرة واحدة.. حي متفاعل وسط جمهور عريض.. مساحة محدودة تتحرك فيها.. وديكور قليل يتغير بين مشهد وآخر.. أنت فقط بقدراتك القادر على جذب الحضور.. هل لي أن أقول أن “عم سيد” قد “سرق الكاميرا” من نجم بحجم “سعيد صالح”.. أم أقول أن “سعيد” المتيم بالفن والمسرح فنان حقيقي يسمح بوجود فنانين حقيقين حوله دون أن يكتفى كغيره ببعض ” السنيدة” والمرددين.. لأن مسرحيات “سعيد” منذ الثمانينات لها قيمة ومضمون ستبقى.. ولأنها كذلك فإنها لا تعرض على الشاشات.. هل علمت بؤس المعادلة يا صديقي؟..

” عم سيد ” ليس حالة فردية خارقة للمألوف.. عشرات بل مئات من ممثلي المسرح المتفردين يعيشون ويموتون في صمت وكمد.. لا يتذكرهم سوي القليلون من مرتادي المسرح وأبناء الوسط.. الشهرة والذيوع لها مقاييس ومعايير أخرى.. في كل الأوساط.. العلاقات وصداقة النقاد وتبادل المنافع كفيلة بصناعة مسوخ يتصدرون المشهد ويتسيدونه.. هل علمتم شر من ذلك مكانا وزمانا وحالة منحدرة للفن والثقافة؟..

(٤)

جمعتنا لقاءات قليلة.. لم أشعر فيها بفوارق سن أو ميول أو أجيال..حدثني عم “سيد” عن فرق القطاع العام و “وكالة الغوري” – ذلك المكان الأثري العتيق بعبقه والذي أخرج عشرات الفنانين – تحدث عن الوجه الآخر المظلم للفن والفنانين.. لمحت تنهيدة حارة خرجت من صدره ممتزجة مع خيوط الدخان قائلا : “أهم حاجة إنك متتنازلش عن كرامتك علشان أي حاجة.. اللي زينا مبيطلعش من الدنيا بفلوس ولا بعربية ولا عمارة ولا طيارة.. بيطلع بسيرته.. لو فرطت في كرامتك هتطلع من الدنيا يا مولاي كما خلقتني.. هتطلع عريان.. ربنا يسترنا دنيا وآخرة”..

كنا نجد ” عم سيد” جالسا في الهواء الطلق أغلب الأوقات.. وحيدا في معظم الأحوال.. لا تلمحه نشيطا منطلقا سوي وهو يمثل أو يعد ديكور إحدى المسرحيات يدق علي رأس المسامير بشاكوشه.. كل منا له مجاله الرحب الذي ينطلق فيه محلقا.. الفن.. الكتابة.. الشعر.. الغناء.. لولا تلك الفضاءات لمتنا إختناقا.. ” عم سيد” لم يمت إختناقا.. لكنه مات نتيجة عرض مرضى سريع لم يمهله كثيرا.. كان ممدا على الفراش بنفس شموخه.. صحيح أنه زاد هزالا وضعفا وشحوبا.. لكن نظرة عينيه الصامدة تنطق بالقوة.. لم يتآوه أو يطلب العون من أحد.. تلابيب الكرامة أوثق وأكبر وأثمن من تسول سويعات أخرى من الحياة.. لم يذكره أحد.. لم ينعيه مانشيت أو حتى خبرا صغيرا منزويا في صفحة داخلية مهملة.. تحدثت الجرائد يومها عن زواج فلانة.. وطلاق فلان.. هؤلاء هم قمم السموق في زمن القبح والرداءة.. حتى أنا لا أتذكر إسمه كاملا.. أتذكر فقط إسم الشهرة.. “سيد الدقن”.. لست أدري هل اسم الشهرة المكتسب هذا قد كان تيمنا أم تشبها بفنان قدير آخر.. لكنني أجزم أنه كان – عم سيد – فنانا متفردا جديرا بأن يتشبه به الآخرون وينتسبون إليه.. لكنها الكرامة يا صديقي.. ذلك المعنى الغائم المحلق.. لها ثمن ومغرم بالتأكيد.. إلا إنها يقينا لها بقاء وخلود.

………………………………………………………………………………….

(&) تقول بعض التقارير الإخبارية الموثوقة أن عرفات مات مسموما بأيدي من ” صنع” معهم السلام..

(&&) لا تذكر الأعمال الفنية المتتابعة – على سبيل المثال – تحالف ” مصر” و ” السعودية” و ” الولايات المتحدة الأمريكية” و ” باكستان”.. ودورهم في نشأة تنظيم القاعدة و ” الجهاد” فى ” أفغانستان” وما ترتب عليه من نتائج.

(&&) الأستاذ حسين أحمد حسين الصديق العزيز المحترم وأحد قلائل من تحويشة العمر والذي كان يشغل وقتها منصب الإشراف على النشاط المسرحي لقصر الغوري للتراث وممثل بالفرقة..ن

اقرأ ايضا للكاتب:

محمد قدرى حلاوة يكتب: « الزر المفقود »

محمد قدرى حلاوة يكتب: « وحوي يا وحوي »

زر الذهاب إلى الأعلى