محمد قدرى حلاوة يكتب: “على الربابة”

بيان

“مدرسة صفا.. انتباه”.. انتهت تمارين الصباح وبدأنا نغني بحناجر عالية: “والله زمان يا سلاحي.. أشتقت لك في كفاحي”.

صعدنا نحو الفصول.. السبت السادس من “أكتوبر / تشرين أول”.. أول أيام العام الدراسي الجديد .. أتلمس الخطوات بعد في الصف الثاني ” الإبتدائي”.. أرتدي الآن البنطال والقميص..” المريلة” لم تعد تليق بي.. مفتنح الدراسة في الغالب يوم تعارف وتنظيم صفوف.. أجلس في أول” دكة “.. “عشر كراسات تسع أسطر – كراستين مربعات – كراسة إنجليزي – كراسة موسيقى – كراسة رسم – جلاد بني – أزرق – أخضر”.. أملت المعلمة الطلبات.

في الثانية تماما كنت في المنزل.. بدأت رائحة الطعام الذكية تفوح في أرجاء المنزل.. أطمئننت على زجاجة عصير البرتقال وقد بدأت تكتسب بعض البرودة.. ساعات قليلة وينطلق مدفع الإفطار.. لم يعد الصيام صعبا.. فقط تناولت ملعقة من دواء” الكحة “.. قالت جدتي أنه لا يفطر.. أوراق الجرائد على الصدر وصية أخرى لتلطيف “سعال الديكة”.. التلفاز يذيع قصيدة الفنان ” محرم فؤاد” ” مصر لم تنم”.

الوالد يغيب عن المنزل منذ بضعة أيام.. لا بأس.. أعتدت الأمر منذ الصغر.. تعافى أخيرا من إصابته بشظية في الظهر جراء حرب ” الإستنزاف”.. ” حلمي البلك” يذيع البيان العسكري الأول بصوته الرخيم..” بسم الله الرحمن الرحيم.. قام العدو الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتي الزعفرانة والسخنة بخليج السويس بواسطة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي للخليج، وتقوم قواتنا حالياً بالتصدي للقوات المغيرة.. “.

هناك شئ مختلف اليوم.. نعم” فوازير ثلاثي المسرح مذاعة بعد الإفطار.. ” وليد ورانيا في الفضاء” لم أفقد شغف متابعتها.. لكن هناك جو من البهجة يسري في نسمات هواء الخريف البارد.. ” الجلاد” الأزرق يلصق الآن على النوافذ.. يمكن ” للكراريس” أن تبقى جرداء لبعض الوقت..” زغاريد ” تنطلق في” الحارة” تطغى على أصوات ” البمب”.. ” هوه إحنا عبرنا القناة صحيح يا ولاد؟!”.. يتسائل ” عم مصطفى” بائع الخردوات.

محل ” عم بنداري” يقع في آخر ” الحارة” ملاصق للسور الحجري.. لعل طبيعة ” الحارة السد” ساعدته على أن يصبح دكانه محل تجارة ومسكنا في آن واحد.. لم تكن هناك تجارة في الحقيقة بالمعنى المعروف..” أبر بوابير – شمع سبوع – بكر خيط”.. بضعة أغراض متناثرة هنا وهناك.. الأهم من كل ذلك هو ذلك الفراش الذي يحتل معظم المساحة.. وموقد الطعام وبراد الشاي المغطي بالسخام.. هذا الرجل الستيني ربما لا يملك ملامحا أو زيا يميزانه كثيرا عن غيره من ” أولاد البلد” فقط كانت رجله ” الخشبية ” تبرز من تحت ” الجلباب” مع عرج ملحوظ.. فضلا عن أنه ” مسحراتي” الحي.

لم يكن ” عم بنداري” يحمل ” طبلة” مثل باقي ” المسحراتيه”.. كان ينادي نداءاته على ” الربابة”.. يثبتها على صدره وتتناثر بعدها النغمات “.. ” أصحى يا نايم.. وحد الدايم “.. تلك العبارات التقليدية كانت تتغير شيئا فشيئا بتتابع الأيام .. “يارب كرمك علينا.. يارب نصرك معانا “.. الصوت أجش بالطبع بعيدا عن قيثارات ” النقشبندي”.. لكن نغمات” الربابة ” سعيدة مبهجة.. هل شجيت أذناك من قبل ” ربابة ” سعيدة؟.

لم يبق سوي يومان ويهل” العيد “.. لم أكن مهتما بوقف إطلاق النار هذا الذي يتحدث عنه الكبار أكثر من الذهاب مع الأهل ” لملابس الأهرام ” لشراء زي العيد.. ليلة مميزة في ” الحارة” بلا شك تلك التي علقت فيها” الكهارب” ونحر أحد” الخراف” أحتفالا بعودة ” جابر” إبن ” عم مصطفى ” من الجبهة مع إصابة جبرت يده اليمني وضمادات على القدم.. ” المسجل” موضوع أمام ” الميكروفون” يصدح بصوت لا يخلو من صفير:

” سينا يا سينا..
بسم الله.. بسم الله..
و أدينا عدينا..
بسم الله.. بسم الله..
ولا قدروا علينا..
بسم الله.. بسم الله..
جنود أعادينا..
بسم الله.. بسم الله..
الله اكبر.. أذن وكبر..
وقول يا رب..
النصرة تكبر”..

بينما” عم بنداري” يرقص رافعا قدمه الخشبية في الهواء.. عازفا على ” ربابته ” السعيدة وهي تعتلي عمامة رأسه.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى